أتذكر اليوم تحديداً، كنا في يوم سبت، وكنت في إشارة جامعة القاهرة، في طريقي لمقر الصحيفة التي أعمل بها في منطقة كوبري القبة، وكان الوقت مبكراً نسبياً، إذ كنت من هؤلاء الذين يذهبون لعملهم مبكراً، عندما تلقيت اتصالاً على هاتفي الجوال من أحد الضباط بجهاز أمني رفيع، وبعد السلامات والطيبات، قال لي نحن فقط نريد "
الفيديو"!.
وسألته أي فيديو يقصد؟!..وظن الرجل أنني أناور، فتحول الحوار كالذي جرى بين "محمد نجم"، و"حسن عابدين" في مسرحية "عش المجانين"، عن "شفيق يا راجل".. يسأل الراحل عابدين عن شفيق، فيرد عليه نجم بأنه شفيق الذي عندما يعطش يقوم ليشرب.. ثم يردف: "شفيق يا راجل".. ويسأله حسن عابدين ومن شفيق؟.. فيكون الرد: "شفيق يا راجل"!.
وإزاء هذا الحوار البيزنطي، قرر الضابط الكبير أن يقوم بغوايتي بهذا "اللحن المغري"، عن أنه يعلم أنني "الكل في الكل"، وأن موضوعاً كهذا لا يمكن أن يمر دون موافقتي على نشره. وعدت لأسأله: وما الموضوع؟!
-فقط نحن نريد الفيديو؟!
فأعود لأسأله: أي فيديو؟!
وبدأ يوضح على مضض: الموضوع المنشور اليوم عن عدد من النواب بإحدى محافظات الوجه البحري.
وعبثاً حاولت إفهامه بأن الجمعة يوم إجازتي الأسبوعية، ولهذا فلا علم لي بموضوع نشر يوم السبت، وعاد الرجل من جديد يكرر "اللحن المغري" إياه، فما كان مني إلا أن أفهمته بأن استنتاجاته صحيحة، وأكبرت هذا الجهاز الأمني الكبير الذي يعلم أين يخبئ القرد ابنه، لكني طلبت منه أن يمهلني حتى أصل لمكتبي وأتمكن من الوقوف على ما جرى من وراء ظهري وفي يوم إجازتي مع أني "الكل في الكل"، وليس بمقدوري أنا العبد الضعيف أن أضلله!.
ولم يكن ما قاله صحيحاً، لكن ربما وقف على أن أبا سفيان يحب الفخر، فقرر أن يدغدغ مشاعري الجياشة بما قال، فلم أكن أنا رئيس التحرير، وإنما كنت واحداً من قيادات الصف الأول بالصحيفة وليس القيادة الأولى!.
المسافة بين جامعة القاهرة، ومقر الجريدة، حوالي عشرة كيلو متر، وفي زحام القاهرة المعروف للكافة، فإن "مسافة السكة" لا تقل عن ساعة، تلقيت فيها عشرات الاتصالات القلقة، ليطمئن المتصل من أنني وصلت بأمان الله، حتى كدت أتصور أنه تم إدراجي ضمن "المحميات الطبيعية" المطلوب من الأجهزة المعنية أن تعمل من أجل الحفاظ عليها. وفي آخر دفعة من الاتصالات توقفت عن الرد، إلى أن وصلت في أمان الله!.
كان أول شيء فعلته، هو أنني تصفحت الجريدة، وهالني ما رأيت، إذ كان النشر عن قضية عدد من النواب، ربما أربعة وربما خمسة، وقد اصطحبوا، كما يقول الموضوع، سيدة تمارس الأعمال المنافية للآداب، إلى شقة أحدهم بالقاهرة، ويبدو أنهم اختلفوا معها "في الحساب" فقررت تجريسهم، وذهبت لمقر مجلس الشعب تشكو من أنها لم تحصل على أجرتها، بحسب الأسعار العالمية، لاسيما وأننا كنا في مرحلة إغراق الجنيه
المصري!.
ولم أرتح للموضوع، وخشيت أن تكون تصفية حسابات بين نواب سابقين لم يحالفهم الحظ، ونواب حاليين لم يكن لهم أن يحلموا بالفوز لولا أنه تم إقرار الإشراف الجزئي للقضاء لأول مرة.. عن برلمان سنة 2000 أتحدث!.
ولم يكن يساورني شك في أننا وقعنا في "الفخ"، وشعرت بأن الدفع بالموضوع يوم الجمعة للنشر يوم السبت، كان مستهدفاً في حد ذاته، فربما لو كنت موجوداً، لكانت هناك استحالة في نشره!.
تعلمنا من العمل في الصحافة أن ما ينشر وإن كان خطأ فهو بمثابة "الطلقة" التي غادرت فوهة المسدس، وبدلاً من لطم الخدود عند رؤية الجثة ممددة على الأرض، ينبغي العمل على البحث عن طرق لتسوية الأزمة ليكون الوقت مناسباً لممارسة اللطم!.
القانون، والدستور الذي هو أبو القوانين، يحظر التطرق للحياة الخاصة للمواطنين، بمن في ذلك من لهم صفة الموظف العمومي، ما لم يكن في ممارستهم لحياتهم الخاصة له علاقة بعملهم الوظيفي، ويحرم ذلك لآحاد الناس ومن بينهم "عنتيل" محافظة الغربية.
وهذه من القضايا التي يستحيل إثبات وقائعها، ما دام لا يوجد تحقيق رسمي، وضبط من قبل الجهات المختصة، لكن العنوان الرئيس يفيد بامتلاك الكاتب لفيديو، لا يصلح لإثبات البراءة، لكنه يصلح لتسوية الموقف بعيداً عن القضاء، لأن الطرف الآخر سيكون حريصاً على تجاوز الموضوع. أتحدث عن القانون الذي أعرفه، فالقضية عرضت بعد ذلك على القضاء، وحصلت الصحيفة على البراءة، ولم أطالع حيثيات الحكم ولم اهتم، وليس هذا موضوعنا!.
ادعاء المحرر أنه يمتلك "فيديو"، بوقائع السهرة الفاصلة في تاريخ الأمة، هو ما دفع الضابط مندوباً عن إحدى الجهات الأمنية لأن يمطرني بكل هذه الاتصالات إذن، ولم أعرف دوافعه للحصول على "الفيديو"، لكني قلت ربما يريده لأسباب حزبية، فهؤلاء النواب ربما ينتمون للحزب الحاكم، ودور الأجهزة الأمنية أن تحافظ على هيبة الحزب بتخليصه من أمثالهم!.
المحرر صاحب الخبطة، يعيش في إحدى المحافظات ويعمل مراسلاً منها، بعيداً عن القاهرة، والقاعدة التي أرسيناها، هي أن القضايا التي بها مستندات، ينبغي أن تحتفظ الصحيفة بنسخة منها، فقد عاصرت إحدى القضايا التي قدم فيه المحرر نسخة المستندات الوحيدة لأحد الوزراء بعد النشر، ليقوم الوزير برفع دعوى قضائية بعدها ضد الصحيفة، وقد كسبها. وعاصرت كيف يدفع الحماس بعض الصحفيين الشبان لموضوع بعينه، أو ثقة منهم في مصدر ليس جديراً بالثقة، فيكون النشر، وعند المحاكمة يتم اكتشاف عدم حيازة المستندات المؤيدة لما نشر!.
سألت إن كان الزميل قد ترك "الفيديو" في الجريدة، فقالوا لقد أرسل الموضوع عبر "الفاكس"، على وعد بأن يحضر "الفيديو" في اليوم التالي.. فما وجه الاستعجال إذن للنشر، ما دام الفارق الزمني يوماً؟..
-لا بأس، فواضح أن الموضوع له علاقة بعدم تواجدي يوم الجمعة. ولا بأس كذلك فنحن في اليوم التالي، وهاتفي لا يكف عن الرنين!.
اتصلت بالزميل أتأكد من حيازته للفيديو؟.. وقال: بكل تأكيد..
-إذن احضر حالاً للقاهرة!.
-أنا في الطريق.. الطريق مزدحم.. أنا على مشارف القاهرة.. حادثة وقعت أوقفت الطريق!.
ثم أغلق الهاتف، ربما فرغت بطاريته، لكني فقدت الأمل في حضوره في هذا اليوم!.
وفي صباح اليوم التالي، تلقيت اتصالاً هاتفياً من زوجة الزميل، تفيد أن زوار الفجر اقتحموا المنزل واعتقلوا زوجها، بعد أن عبثوا بكل محتوياته، وفتشوا في كل أركانه..
وغضبت، وكان هناك تقليد متوارث (على أيامنا) مفاده أن كرامة أي صحفي من كرامة صحيفته، واتصلت بالضابط وأنا في حالتي هذه، ولا أتذكر كل ما قلت، لكن الذي أتذكره جيداً أن صوتي دفع كل من في الجريدة للتدافع لمكتبي!.
مما أتذكره من هذه المكالمة، هو ما قالته له: لقد وعدتك أنني سأرسل لك "الفيديو"، لتأكيد مصداقية الجريدة، فما هو لزوم اقتحام منزله، وترويع أطفاله.. ونفترض أنه لا يوجد فيديو، فأنتم لستم النواب المتهمين، ولستم محكمة تصدر الأحكام، ولا أظن أن السيدة "إياها" قريبة لوزير الداخلية.
بدا الضابط منزعجاً لما جرى، ثم طلب مني أن أمهله لبعض الوقت، حتى يعرف حقيقة الذي حدث!.
بعد أقل من نصف ساعة عاود الاتصال بي ضاحكا:
-لسنا نحن من ألقي القبض علي زميلكم.. ولكنه الجهاز الفلاني!
-وهل هو جاسوس يعمل لصالح إسرائيل.. لتكون لهذا الجهاز علاقة به؟!
هنا لم يكن أمام صاحبنا بد من أن يشرح لي حقيقة الموقف!.
-"الريس" طلب الفيديو ليشاهده.
ومن الواضح أن الرئاسة طلبت من كل الأجهزة الأمنية أن تحصل على "الفيديو" فطلبات الرئيس أوامر، ولاسيما ما جاء على لسان "السيدة إياها" من فشل "السادة النواب" في المهمة، وقد تبدي ضعفهم أمامها. وهو كلام مغر بالمشاهدة من رئيس كان يعاني من الفراغ القاتل!.
ومن الواضح أيضاً أن زميلنا ظل يراوغ هذا الجهاز، كما راوغني، وهو يخبرني أنه في طريقه للقاهرة، فقالوا بيدنا لا بيده، واقتحموا منزله ليعثروا على "الفيديو"، أو يحملوه على تسليمه لهم تحت سيف الترويع، تنفيذاً لرغبات الرئيس
مبارك!.
السياسة كثيراً ما تكون حاضرة في كثير من هذه القضايا، وكل قضية لها ظروفها وملابسها!.
فقضية "عنتيل الغربية"، كانت أول ما روجت لها وسائل إعلام مملوكة لرجل أعمال يهدفون للسيطرة والاستحواذ على البرلمان القادم، لذا فلابد من التخلص من حزب "النور" السلفي، رغم أنه من دوائر الانقلاب، فانقلابهم يأكل نفسه الآن!.
قالوا في البداية إن "العنتيل" أمين حزب "النور" في الغربية.. ونفي الحزب.. فقالوا: أمين حزب النور في مدينة "السنطة". ونفي الحزب. فقالوا بل أمين الإعلام في "السنطة". وقال الحزب: ليس منا بل من الإخوان!.
وبعض صفحات التواصل الاجتماعي التي يديرها من هم ينحازون للشرعية اعتبروا القضية رمية بغير رام، لتصفية حسابات مع حزب "النور" الذي انحاز للعسكر وتآمر على الرئيس محمد مرسي من أول يوم!.
بيد أن التوظيف السياسي للقضية كان يستهدف تشويه "النور" أولاً وكل الإسلاميين ثانياً، لاسيما وأن هناك كلاما عن أحزاب إسلامية أخرى قد تفاجأ الجميع بخوض الانتخابات البرلمانية القادمة.
قاتل الله السياسة!.