كتب جمال خاشقجي: «يجب أن ننتبه إلى ما يحاك لنا في الخفاء» هل تعثرت اليوم بهذه الجملة في صحيفة ما؟ لا بد من ذلك، فهي جملة مستهلكة، متداولة، باتت تتواتر على ألسنة كثير من الكتّاب، بل والمسؤولين أيضاً، فهي عذر سهل بسيط لتبرير الأخطاء، والثورات، والانهيارات المتوالية في المنطقة مع العجز عن الإصلاح، فما حصل ويحصل ما هو إلا «مؤامرة، حيكت خيوطها بليل»، ولكن ماذا لو لم تكن هناك مؤامرة وأن المشكلة حقيقية، وأننا نعالجها بالدواء الخطأ؟ حينها ستتفاقم لتعود من جديد أكبر وأضخم وأعصى على العلاج.
ثلاث قضايا في محيطنا، تكاد حقيقتها تضيع وسط روايات المؤامرة المتعددة،
الربيع العربي، وداعش والحوثيون، فأين الحقيقة حيال كل منها؟
الربيع العربي، استحقاق تاريخي، كان لا بد أن يحصل، فهو نتيجة تراكم أخطاء وفشل أنظمة، يستطيع مؤرخ أن يعيد جذور الفشل إلى التأسيس الخاطئ لمعظم الدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وإذا اختلف المؤرخون هناك، فهم لن يختلفوا لو عاودوا إلى ما بعد ذلك، لزمن الانقلابات العسكرية، وسيطرة عقيد وبكباشي متحمس بتحصيل علمي متواضع على مقاليد السلطة، ألغوا الطبقة السياسية المتعلمة التي سبقتهم، اتهموها بالفساد والاستبداد فغرقوا من بعدهم في فساد واستبداد أكبر، مع قلة خبرة وسوء إدارة، فتراجع الاقتصاد، وساء التعليم، وانتشر الظلم، تشكّلت طبقة حاكمة تحتكر السلطة والمال، فكان من الضروري أن يغضب الشعب. البعض يرفض هذا التحليل الموضوعي ويفضّل القول بأنها مؤامرة أجنبية، ومشروع أميركي، وعمل ربط عقدته وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد قبل عقد من الزمن وتحقق الآن، وبالتالي لا بد من مواجهة المخطط، ومحاصرة منفذيه من شباب وأحزاب، هذه أوهام ومناطحة لقوة التاريخ، ولن توقف حركة الربيع نحو الحرية والمشاركة والحياة الأفضل، ستؤجلها فقط إلى لحظة انفجار أخرى تكون أقسى مما سبق.
الحوثيون، مؤامرة
إيرانية، هذا هو السائد لدى كثير من الساسة والكتّاب، ولكن هذا القول تبسيط لظاهرة حقيقية تسهم اليوم في تشكيل اليمن الجديد، نعم، لا يخفي الحوثيون علاقتهم بإيران، وليس سراً أن الأخيرة تدعمهم بالمال والسلاح، ولكن ما كان لإيران أن تصنعهم لو لم يكونوا موجودين أصلاً، التفسير الصحيح هو أنهم «انتقام الزيدية الأصولية المتأخر» والتي تعرضت لهجمة فكرية وسياسية بعد سقوط الإمامة التي قاومت بشراسة ولم تهزم تماماً إلا بعد حرب أهلية قاسية، النتيجة كانت قسوة مقابلة من اليمن الجمهوري، فهمّش المذهب الزيدي، خصوصاً في جانبه السياسي الذي رآه الجمهوريون مهدداً لشرعيتهم، والجانب السياسي في الزيدية عميق جداً ويشكّل مكوناً أساسياً فيه، زاد الطين بلة هجمة عقدية تعرضت للمذهب نفسه من السلفيين والإخوان الذين نشطوا حتى في معاقله بشمال اليمن ما استفز «الأصولية الزيدية». بعد هذا التفسير الموضوعي يمكن أن تأتي نظريات المؤامرة، بين قائل إن الرئيس السابق علي عبدالله صالح هو أول من دعمهم، إلى النظرية الثانية بأنهم أداة إيرانية، وكلتا النظريتين صحيحة، فهم تعاونوا بالفعل مع صالح، ورحبوا بالدعم الآتي من إيران بل توسعوا في ذلك، ولكن من الخطأ النظر إلى تلك العلاقة بأنها «علاقة تبعية» وإنما هي مصالح متبادلة.
إدراك الأسباب المؤسسة للحوثيين، وحقيقة وجودهم يساعد في التعامل معهم اتقاءً لشرهم، أو للتعاون معهم لتحقيق استقرار اليمن الذي يهم جيرانه، أما الغضب والقول إنهم «صنيعة إيرانية» فهذا يصلح لمقالة تعبوية وليس لفعل سياسي استراتيجي.
أما
داعش، فهؤلاء تكاثرت عليهم «المؤامرات» فهم صنيعة إيرانية، أميركية، سورية، عراقية، خليفتهم يهودي، ونشرت صور له مع السيناتور الأميركي جون ماكين، ونقل عن وزيرة خارجية بلاده السابقة هيلاري كلينتون أنها أسهمت في تأسيسهم، وبالطبع فإن كل ما سبق غير صحيح.
داعش حركة سياسية دينية غاضبة، هي البديل عندما نلغي التدافع السياسي السلمي، فلا يبقى أمامنا غير شاب مكفهر الوجه والحديث، يصرخ «جئتكم بالذبح»، يرفض الديموقراطية وتداول السلطة السلمي، لا يؤمن بأنصاف الحلول ولا المشاركة، حركة ترى أن الحق كله اجتمع فيها وحدها، تنتمي عقدياً إلى مدرسة ظاهرية متشددة من مدارس أهل الحديث، تنتقي من الأحاديث ما يعزز ويبرر غضبها ورؤيتها للإسلام خالصاً متجرداً من كل المذاهب، فكرة سبقت القاعدة، ونحتاج إلى شجاعة كي نعيدها إلى جذورها الحقيقية حتى نستطيع أن نواجهها فكرياً، من تنتسب إليهم ينكرونها، ولكنها تصرّ على الانتساب إليهم، أميل إلى أن أنسبها إلى جهيمان وحركته «الجماعة المحتسبة» مع إعجاب ببعض أفكار سيد قطب وليس كلها، ولعل من أهم ما يضعف المواجهة مع داعش الخصام حول نسبتها، ففي زمن تصفية الحسابات يكون مفيداً دفعها بعيداً نحو الخصم، كالقول إنهم الذراع العسكرية أو الإرهابية للإخوان، فلا ننتبه إلى أنهم يكرهون الإخوان ويكفرّونهم بقدر ما يكرهون الإيرانيين ويكفرونهم الذين نقول إنها صنيعتهم، ولكن السياسة بطبيعتها «قذرة»، ويستطيع المحلل أن يجد ملابسات تشير إلى علاقات بين إيران والقاعدة، وأن بشار الأسد غضّ الطرف عن نشاط داعش، بل كلاهما يغض الطرف عن بعضهما بعضاً، البعض يحلل ذلك بأنه تبعية، ولكنهم مثل أعدائهم «
الحوثيين»، يمارسون لعبة السياسة وتبادل المصالح، ويمرّون بمواقف مرحلية تتغير بتغير المرحلة، ومكاسب الربح والخسارة، فبقدر ما داعش «إسلامية متطرفة» فإنها «ميكافيلية» ماهرة، هي كمن «يقامر» مع الجميع، وحتى الآن هي من كسب جولة اللعب الأخيرة.
الخلاصة، الربيع العربي قوة ستستمر، هو كالماء، سيشق طريقه في النهاية، ورعايته أفضل، فهو بحاجة إلى أخ أكبر ينتبه إليه حتى يثمر لمصلحة الجميع، أما الحوثيون، فهم مكوّن يمني حقيقي، يستفيد من إيران ولكن جذوره يمنية خالصة، شقّ طريقة وأصبح لاعباً أساسياً في تشكيل اليمن الجديد، ولا بد من التعامل معه لمن يريد يمناً مستقراً. أما داعش فهي أيضاً نتاج بيئتها، التعصب والغضب والفشل والاستبداد، بينها وبين الربيع العربي علاقة سببية، ولكنهما يفترقان عندما يتطلعان إلى المستقبل، إذا عرفنا جذورها العقدية، سنعرف نقطة ضعفها، وحينها نستطيع الانتصار عليها.
(عن الحياة اللندنية 16 آب/ أغسطس)