مقالات مختارة

حكومة الظل المصرية

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
كتب فهمي هويدي: قبل أن يُعلن رسميا عن منع بث مسلسل «أهل إسكندرية» خلال شهر رمضان، أشارت الصحف إلى أن جهة غامضة أوصت بذلك.

وهو ما يعني أن القرار أصدرته تلك الجهة لأسباب وحسابات لم تكن مضطرة ولا راغبة في إعلانها، وأن مجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامي حين اجتمع وأعلن «تأجيل» عرض المسلسل فإن دوره كان مقصورا على إخراج القرار وليس إصداره. عندي تجربة خاصة مع حكاية «التأجيل» تجعلني أستريب في مقصوده.

ذلك أن أحد رؤساء التحرير السابقين لجريدة الأهرام حين كان يريد منع أي مقال لي فإنه لم يكن يؤشر بالمنع كي لا يؤخذ عليه، لكنه كان يقرر «تأجيله» فقط. وهو يعلم أنه كان يُنشر في اليوم نفسه في عدة دول عربية، الأمر الذي يعني أنه إذا لم يظهر بالأهرام في ذلك اليوم فسوف يتعذر نشره بعد ذلك، لأنه يكون قد «حُرِق» إذا استخدمنا الوصف الدارج في محيط المهنة، بعدما تم نشره في أماكن أخرى وصار في متناول الجميع.

حدث معي بعد ذلك أنه حين لم أُمكَّن من السفر قبل عدة أسابيع، قيل لي إنه لا يوجد قرار بمنعي من السفر. وأفهمني العالمون ببواطن الأمور بأن المنع له بابان أحدهما قانوني يصدره النائب العام والثاني «سيادي» يصدر عن جهات غامضة لا تُسمى ولا تُعرف ولا تُسأل.

والمنع الأول يتم من خلال قرار مكتوب يصدره النائب العام ويبلَّغ إلى الجهات المعنية في المطارات والموانئ. أما المنع الثاني فتصدره الجهات الغامضة من خلال الرسائل والاتصالات التي يتعذر إثباتها. فقد يقوم الوسطاء بتوصيل التبليغات والتنبيهات شفاهة، وقد يتم الأمر من خلال الاتصالات الهاتفية.

وما أدهشني أن مسؤولا صحفيا على صلة بالمؤسسة الأمنية قال لي إن الجهات التي تُصدر ما يُسمى بالقرارات السيادية عددها تسع في مصر، وهو ما استغربته لأن مبلغ علمي أنها بين ثلاث أو أربع.

لقد ذكرت في مناسبة سابقة أن مصطلح الجهات السيادية الرائج في الإعلام المصري يُعد بدعة لا أصل لها، في السياسة أو القانون. وهو قناع تتجمل به المؤسسة الأمنية والجهات الغامضة التابعة لها التي لا تريد الإعلان عن نفسها، وتفضل استخدام ذلك المصطلح التماسا للهيبة من ناحية ولترهيب الآخرين وإسكاتهم من ناحية أخرى.

ذلك أنه لا يوجد شيء في الدول العصرية اسمه مؤسسة سيادية، ولكن هناك قرارات سيادية تصدرها السلطة بناء على تقديرها السياسي وليس بموجب صلاحياتها الإدارية.

ولأنه تقدير سياسي (مثل إعلان الحرب أو الطوارئ أو تعديل الوزارة) فإنه يظل بعيدا عن الرقابة القضائية، وإن خضع للرقابة البرلمانية.

من الناحية العملية فكلما انحسر التطبيق الديمقراطي تمددت وتعددت الجهات الغامضة واستفحل دور الجهات التي تتحصن وراء المسميات المختلفة، والصفة السيادية أبرزها.

وبمقتضى ذلك فإنها تقوم بدور فاعل في توجيه مختلف أنشطة الشأن العام، في حين تظل قابعة في الظل وبعيدة عن أي مساءلة. إننا لا نعرف على وجه التحديد من قرر منع مسلسل «أهل إسكندرية»، ولا من أوقف برنامج باسم يوسف، ولا من ضغط سواء لتطفيش علاء الأسواني، أو لمنع أشخاص بذواتهم من الكتابة في الصحف أو إخضاع كتاباتهم لرقابة خاصة، كما حدث مع أهداف سويف مؤخرا ومن قبلها وائل قنديل.

ثم إننا لا نعرف مدى صحة الشائعات التي تتحدث عن وضع أسماء منسوبين إلى ثورة 25 يناير ضمن قوائم غير المرضي عنهم. ومن هؤلاء الدكتور عمرو حمزاوي والدكتور سيف عبدالفتاح وصولا إلى عبدالرحمن القرضاوي ومصطفى النجار وعمرو واكد والفنانة بسمة...إلخ.

هذه الجهات الغامضة التي يسمونها جهات سيادية هي حكومة أخرى قابعة في الظل. ولا أستبعد أن تكون الحكومة الحقيقية التي تسير البلد من مواقعها البعيدة عن الأعين. وهي مختلفة عن حكومة الظل في إنجلترا مثلا، التي تشكلها الأحزاب لكي تكون جاهزة لإدارة البلد واستلام السلطة إذا فازت في الانتخابات إلا أن جهاتنا السيادية تمارس ولا تنتظر الانتخابات.

وهي أيضا تختلف عن الدولة العميقة التي تضم عناصر الأجهزة الأمنية وشبكات المصالح والخصوم السياسيين الذين يعملون تحت الأرض لتغيير الأوضاع والتأثير على السياسات. ذلك أنها عندنا جزء من السلطة يعمل فوق الأرض وغير مرئي لنا ولكنه أحد أذرع سلطة القرار. وهي تؤدي دورا سياسيا لما تتصوره خدمة للنظام، دون ضلوع شبكات المصالح الاقتصادية فيها.

والأمر كذلك، فإن أزمة مسلسل «أهل إسكندرية» تعد قرينة جديدة على مدى عمق أزمة الديمقراطية والشفافية في مصر.

وإذا كان منع المسلسل قد وفر أفضل حملة دعائية له، إلا أنني أتمنى أن تعد الأزمة بمثابة جرس إنذار ينبهنا لحاجتنا الملحة إلى الشفافية واستعادة المسار الديمقراطي، الذي يبدو أنه بند مؤجل في أولويات النظام القائم.

(نقلا عن صحيفة بوابة الشرق القطرية 28 حزيران/ يونيو 2014)
التعليقات (0)