في تراثنا الإسلامي أعلام بلغوا – في التصوف – مرتبة الأقطاب .. واحتلوا – في العقلانية – مكانة الفلاسفة الكبار، فكان العقل عندهم سبيل فقه النقل، والأداة الموقظة للقلب، كما كان القلب عندهم المرطب لحسابات العقول.
ولقد كان الإمام الحارث بن أسد المحاسبي (165 – 243 هـ ، 781 – 857 م) واحدا من هؤلاء الأعلام الذين تألقوا في تاريخ الإسلام .. لقد أجمع بين
السلفية الحقة وبين التصوف الشرعي، فصار نموذجا ندعو السلفيين المعاصرين ليتعلموا منه مكانة العقل عند علماء السلف.. كما ندعو متصوفة العصر ليتعلموا منه مقام العقل عند أقطاب التصوف الحقيقي..
لقد عاش هذا الإمام القطب في عصر تابعي التابعين – أي في خير القرون – وخصص للعقلانية كتاب أسماه "العقل وفهم
القرآن" وكتب فيه عن مقام العقل كلاما نفيسا قال فيه "العقل غريزة وضعها الله – سبحانه – في أكثر خلق.. وعرفهم الله إياها بالعقل منه، فبذلك العقل عرفوا الله، وشهدوا عليه بالعقل الذي عرفوه به من أنفسهم بمعرفة ما ينفعهم ومعرفة ما يضرهم.. وبغريزة العقل أقام الله الحجة على البالغين، وإياهم خاطب من قَبل عقولهم، ووعد وتوعد، وأمر ونهى، وحض وندب.. إنه – العقل – صفوة الروح، أي خالص الروح.. وهو اللب، ولب كل شئ خالصه، فمن أجل ذلك سمي العقل لباً، "إنما يتذكر أولو الألباب" – الزمر 9- يعني أولي العقول.
والعقل نور وضعه الله طبعا وغريزة، يبصر به، ويعبر به، نور في القلب كالنور في العين، وهو البصر. فالعقل عريزة يولد العبد بها، ثم يزيد فيه معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدالة على المعقول.. وهذه المعرفة عن العقل تكون .. والله إنما خاطب العباد من قبل ألبابهم، واحتج عليهم بما ركب فيهم من عقولهم.. وقد روي في تفسير قول الله لموسى – عليه السلام – "واستمع لما يوحى" طه – 13، أي أعقل ما أقول لك، وفي القرآن "وتعيها أذن واعية" الحاقة 12، أي أذن عقلت عن الله ما سمعت مما قال وأخبر.
والفهم والبيان يسمى عقلا، لأنه عن العقل كان، وأعظم العاقلين عن الله العارفين عقلا عنه ومعرفة به، الذين أقروا بالعجز أنهم لا يبلغون في في العقل والمعرفة كنه معرفته، وإذا تم عقل المؤمن عن ربه أفرده الله عز وجل بالتوحيد في كل المعاني.
والحجة حجتان: عيان ظاهر، أو خبر قاهر، والعقل مضمن بالدليل، والدليل مضمن بالعقل، والعقل هو المستدل.. ولذة الحكماء والعلماء في عقولهم، ولذة الجهال والبهائم في شهواتهم، ولقد جعل الله العقول معادن الحكمة، ومقتبس الآراء، ومستنبط الفهم، ومعقل العلم، ونور الأبصار.. وأنزل الكتاب ليدبروا آياته بعقولهم، ويتذكروا ما قال بألبابهم "ليدبروا آياته" "لقوم يعقلون" "لقوم يتفكرون" أي أنه أنزله للتذكر والتفكر فيه، وخص بالتفكر والتذكر أهل العقول وأولي الألباب".
هكذا تحدث القطب الصوفي الإمام الحارث بن أسد المحاسبي عن العقل، ومقامه ومكانته..
فهو النور الذي به نعرف الله – سبحانه وتعالى – ونتدبر كتابه.
وهو الطريق إلى التصديق برسالة الرسول – عليه الصلاة والسلام – وبالدين الذي بلغه الرسول عن الله.
وهو الأداة التي أقام الله بها الحجة على البالغين..
وبه نفقه التكاليف الشرعية: الأمر والنهي، والحض والندب والوعد والوعيد.
ولا تناقض بين العقل والروح، بل إن العقل هو صفوة الروح، أي خالص الروح، كما أنه هو اللب – أي الجوهر – بالنسبة للإنسان.
إنها كلمات نفيسة، تحتاج إلى تدبر، لتدريب العقل على الفهم، ولكي يكون الفهم والوعي هو الطريق للتصوف الصحيح.. فهلا قرأ أدعياء التصوف.. وأدعياء السلفية هذا الكلام النفيس؟!