من أجمل الكلمات وأكثرها جاذبية وبهاء، كلمات "النور" والتنوير".
وفي الإسلام ، "الله نور السموات والأرض" (النور - 35)، والقرآن نور "فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا" (التغابن - 8)، والإسلام نور "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور" (البقرة - 257)، والرسول نور "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" (المائدة - 15) والحكمة نور، كما جاء في الحديث "فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة" رواه الإمام مالك، والصلاة نور كما جاء في الحديث "الصلاة نور المؤمن" رواه الإمام أحمد، ولذلك فإن المسلم "تنويره" ينطلق من كل هذه الأنوار..
لكن هذا المصطلح الجميل -
التنوير.. والأنوار قد غدا في ثقافة النهضة الغربية الحديثة عنوانا على أمر آخر، لا علاقة له بالمضمون العربى والأدبى لهذا المصطلح - غدا عنوانا على اتجاه فلسفى يريد إقامة قطعية معرفية كبرى مع الموروث
الديني الغربي الذي أدخل أوروبا عصور الظلمات - في عصورها الوسطى.. وإذا كانت حياتنا الثقافية المعاصرة قد شهدت - وتشهد - "تدليسا" يخفي هذا المعنى للتنوير الغربي، فإن الاحتكام إلى الكتابات الغربية هو أفضل وأقصر طريق لكشف هذا "التدليس..".
لقد تحدث الكاتب الفرنسى "إميل بولا" في كتابه (الحرية والعلمنة) عن المعنى الغربي للتنوير، فقال: "لقد كان المسيحي حريصا على عدم تقديم الطاعة إلا لله ولكتابه.. أما الآن - أي مع التنوير - فلم يعد الإنسان يخضع إلا لعقله..
إن هذه الايديولوجيا الأم، التى كشفها عصر التنوير للعالم والتي تضاد المسيحية، تقيم القطيعة الابتمولوجية - (المعرفية) - الكبرى التى تفصل بين عصرين من الروح البشرية، عصر الخرصة اللاهوتية للقديس توما الإكوينى (1225 – 1274م) وعصر الموسوعة لفلاسفة التنوير.. فمنذ الآن فصاعدا راح الأمل بمملكة الله ينزاح لكى يخلى المكان لتقدم عصر العقل وهيمنته.
وهكذا راح نظام النعمة الإلهية ينمحي ويتلاشى أمام نظام الطبيعة، لقد أصبح الإنسان "وحدة مقياس للإنسان"!.
هكذا تقطع هذه الشهادة الغربية على أن هذا التنوير الغربي إنما يعنى إقامة قطيعة معرفية كبرى مع الدين، وإحلال الطبيعة والعقل المجرد من الدين محل مملكة الله!
واذا نحن شئنا شهادة عربية على صدق هذه الحقيقة، فإننا نورد "المقولات العشر" لهذا التنوير الغربي، كما صاغها أحد أنصاره الدكتور مراد وهبة في كتابه (مدخل الى التنوير) - الذي قال - فى هذه المقولات العشر إنها:
- إن الإنسان حيوان طبيعي إجتماعي، فهو جزء من الطبيعة، وهي التي تزوده، فهو أقرب إلى الحيوان منه إلى الله... فليس خليفة لله، خلقه وكرمه بأن نفخ فيه من روحه، وفضله على سائر المخلوقات.. وسعادة هذا الانسان دنيوية محضة، يجدها فى العاطفة والشهوة وحدهما.
- وحصر الاهتمامات الإنسانية بقضايا العالم الراهنة والطبيعية المحسوسة، لا العالم الآخر، أو ما وراء الطبيعة.
- والوقوف في الدين عند "الدين الطبيعي" الذي هو إفراز بشري من صنع العقل، لا الدين السماوي المتجاوز للطبيعة "واعتبار الشعور الديني مزيجا من الخوف الخرافي والرغبة في تغيير ظروف تؤلمه.
- وتحرير العقل من سلطان الدين، وإعمال العقل دون معونة من الآخرين، وجعل السلطان المطلق للعقل، بحيث لا يكون سلطان على العقل إلا للعقل وحده.
- وإحلال العلم محل الميتافيزيقا.. وعدم تجاوز الملاحظة والتجربة إلى ما وراءهما من سبل المعرفة "النقلية" و"الوجدانية".
- واعتبار الفكر وظيفة الدماغ.. فالدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد "الصفراء"، وليس هناك نفس في الإنسان.
- وإثارة الشكوك فى مشروعية المطلق، فالإنسان هو مقياس المطلق.
- واستنباط الأخلاق من الطبيعة الإنسانية، وحصر علاقتها بالسعادة واللذة، لا بالفضيلة والاحتياجات الروحية، مع جعل الاولوية للإحساسات الفيزيقية على المفاهيم الإخلاقية والعقلية، فالأخلاق من صنعنا نحن ومن ثمرات خبراتنا، وهي مستندة إلى الحالة الفيزيقية.
- وإحلال "الاجتماعية" محل "الدينية" سبيلاً لتحقيق السعادة الدنيوية بالعاطفة والشهوة، فالطبيعة هي التي أوجدت الإنسان والمجتمع مسئول عن سعادته.
- ورد القوانين إلى أصول فيزيقية وتاريخية، وتحرير التاريخ من السنة الإلهية، وتفسيره بمفاهيم طبيعية أو مفاهيم أخلاقية، نابعة من الطبيعة "الإنسانية".
تلك هى المقولات العشر للتنوير المادي، الذي يجعل الانسان حيوانا طبيعيا، ويقطع جميع الصلات بينه وبين الله والدين.