مقالات مختارة

من رائد البرغوثي إلى وليد دقة: "لا باب"؟

احمد جميل عزم
.
.
كُلما همّ القلم بكتابة قصة أسير في سجون الاحتلال، داهمته قصص أكثر.

دخل رائد البرغوثي، الذي سمى أبناءه: شرار، ونهوض، ومصطفى، والفتيات: دولة (ولدت وقت إعلان الدولة)، وأسير (ولدت وهو في المعتقل)، المستشفى في رام الله، مصاباً بتسمم في الكلى والدم، خاطب زوجته قائلا: «يا رب يعطيني عمُر أشوف مصطفى».

يقصد ابنه الأصغر الذي كان متوقعاً خروجه من المعتقل الإسرائيلي، خلال أيام، وفي يوم الأرض، 30 آذار (مارس) توفي رائد صباحاً وخرج مصطفى مساء.

قبل سنوات في شهر رمضان، جلست مع رائد وأخوين آخرين، وسجّلنا صداقة أبو شرار، وصديقهم «أبو كرمل»، مع مروان برغوثي، ودخولهم المعتقل ثلاثتهم أول مرة نهاية السبعينيات، ومجموعتهم النضالية التي شكلوها مع شابين آخرين، قبل انضمامهم لأي فصيل.

حدثوني عن سيرهم بين الجبال والوديان يتخيلون إلقاء خطابات الثورة والتحرير. كنت أمني النفس أن ألتقيه ثانيةً لنتحدث عن تجربته في تأسيس حركة الشبيبة الطلابية، والقيادة الموحدة للانتفاضة الأولى، ونضاله في البلديات، حيث ترأس بلديات عدة في حالات طارئة، مثل بلدتي أبو ديس والرام في القدس. كان يتحدث عن البلديات بروح مناضل.

استغرب مصطفى ابن قرية كوبر، المعروفة بمناضليها، عدم وجود موكب فرح في استقباله. كان شقيقه نهوض في السيارة اليتيمة التي تستقبله، وأبلغه بالوفاة. قاعة الفرح التي تزينت لاستقباله حُرّا أصبحت قاعة العزاء.

تُقرع في جدار الرأس قصة عميد الأسرى كريم يونس، الذي انتظرت أمه خروجه من المعتقل 39 عاماً وأربعة أشهر، تحتضن صورته، ثم توفيت في آيار (مايو) الفائت، وأطلق كريم بعد انقضاء 40 عاما في نهاية العام 2022.

أمّا وليد دّقة الأسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي، منذ العام 1986 (37 عاماً)، فهو ملك التفاصيل الصغيرة، التي يسجلها في كتابات فكرية، وأدبية من نوع خاص.

كان مُقرراً الإفراج عنه هذا العام، لكن الاحتلال أضاف لسجنه عام 2018 عامين آخرين.

كتبتُ عام 2014 عن رسالة بعثها من معتقله يصف فيها حواراً مع أسير يكبره سناً: «عَتِقَ في أقبية السجن». يُخاطبه هذا الأسير: «أتعرف ما أكثر ما أشتاق له في الخارج؟ أو حتى يمكن أن يبكيني شوقاً؟
أن يَسأَلني أحدهم مثلا سؤالاً في أمر عادي جداً، أن يوقفني أحدهم ويسألني مثلا «معك فراطة؟». ويتابع: ليس مهماً أن يكون معي فراطة أو لا يكون، المهم أن يسألني «من زمان ما حدا سألني إذا معي فراطة».

عندما كتبتُ عن وليد كان اسمه الحركي ميلاد، لكنه الآن والد فتاة صغيرة اسمها ميلاد. فرض وليد بنضال صعب على الاحتلال أن يعقد قرانه على الناشطة والصحفية سناء سلامة عام 1999.

وفي العام 2020 وعبر النُطف المهرّبة وُلدت طفلته ميلاد، بعد ذلك بدأ يكتب عنها. ومما تجده على صفحة (حملة إطلاق سراح الأسير وليد دقة) على الفيسبوك قوله «في إحدى المرات بعد أن عادت ميلاد من رحلة إلى البحر، قلتُ لها عبر الهاتف في المرّة القادمة أنا سآخذكِ إلى البحر، لم تجبني مباشرةً واستغرقها الأمرُ، بضع ثوانٍ وكأنها لا تُريدُ أن تصدمني في الحقيقة وقالت: لاء، أنت لاء، أنت مفش عندك باب! كنتُ دومًا في حيرة من أمري عندما كانت تسألني عبر الهاتف: بابا انت وين؟ فلا ألفظ أمامها كلمة «سجن» حتى لا تتعرف على هذه الكلمة وما تعنيه من معانٍ سلبية (…).

ميلاد أدركت من خلال الزيارات بأن هذا المكان يعني سجناً قبل أن تجرده بكلمةِ سجن. ويعني لها لا باب، وأن والدها في مكانٍ لا يمكنه مغادرته لأنه لا باب، وإذا كان لا باب فلا بحر ولا إفطار يحضرّهُ لها صباحًا ولا يمكنه أن يرافقها إلى الحضانةِ التي تصرُ على أن تسميها مدرسةً، ولا أي شيء آخر».

وليد مصاب الآن بسرطان النخاع الشوكي، وبحاجة لعلاج عاجل لا يحصل عليه، وبحاجة إلى إفراج مبكر تضمنه الشرائع لمن هو في حالته، لتراه وتحضنه ميلاد، يحتاج وليد تضامناً حقيقياً حتى يُفتَح باب السجن ويخرج منه حيّاً.
(الغد الأردنية)
التعليقات (0)