هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ولكنّ العبء كان ثقيلا. فقد كانت الإمبراطورية العثمانية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ضحية لعدم مواكبتها للتحولات من حولها. فلم تشهد ثورة صناعية ولم تحصّن أراضيها جيّدا.
رغم أن التواريخ الرسمية تشير إلى خضوع الجزائر وتونس للحكم العثماني بداية من سنة 1518 و1574 تواليا، يعسر على المرء أن يحدّد البداية الفعلية للعلاقات بين الدولة العثمانية، القوة الناشئة في الحوض المتوسط ودول شمال إفريقيا، بدقّة.
ولمّا غذّت هذه الثورة نزعة الجوار الأوروبي الاستعمارية بحثا عن المواد الأولية وفتحا لأسواق جديدة، غدت أغلب إيالاتها هدفا. ولم تكن الإمبراطورية تكترث كثيرا بعمل أعدائها على تقويضها من الدّاخل وبتأجيجهم لنزعات الانفصال لدي عديد القوميات، الأوروبية منها خاصّة. وربمّا أسهمت سياستها بدورها في هذه الأقاليم إلى تأجيجها. وأضحى الخطر يتهدّد المركز نفسه. فكان من الحتمي بالنسبة إليها أن تلتجئ إلى مجالها الإسلامي الحيوي وأن تفعّله.
ضمن هذا السياق الخطير مثّل تأسيس الجامعة الإسلامية فعلا مقاوما. ولئن بدا ظاهره استجابة إلى حاجات سياسية عاجلة، فإن عمقه يكشف عن مشروع حضاري يتبنى قضايا التحرر الوطني ويعمل على تجديد الفكر الديني ويطمح إلى إعادة الوحدة الإسلامية في مقولاتها الخمسة الكبرى العقيدة والشريعة والأمة والحضارة ودار الإسلام. فجعل من الأستانة "مكة ثانية" على عبارة الباحث، لتغدو قبلة جميع المضطهدين والمهجرين في جمع أنحاء العالم الإسلامي. واستقطب أغلب نخبهم وفاعليهم على المستوى السياسي والفكري. وحاول أن يحفّزهم ويذكّي لديهم ردة الفعل تجاه مستعمريهم الأوروبيين وأن يعينهم على استعادة حريات أوطانهم. ولطالما انتظر المسلمون من الإمبراطورية وهذا الدور الروحي واللوجستي في آن، باعتبارها المركز المسؤول عن شؤونهم والمؤتمن عن حماية أراضيهم. فمثل مشروع الجامعة الإسلامية سببا في تمسّك النخب بها وجدّد أملهم في دورها.
لم تكن تحركات الوطنيين المغاربة ونضالاتهم صلب الجامعة الإسلامية إذن نتيجة لـ"وطنية عثمانية" بقدر ما كان انخراطا في استراتيجية قوامها المراهنة على معاني التّكافل والتضامن الإسلاميين اللذين يحتّمان التّعاون بين الأخوة في مواجهة الأخطار الخارجية.
2 ـ المغاربة والولاء للدولة العثمانية.. الأسباب البعيدة
لولاء المغاربة للدولة العثمانية أسباب عميقة يفصلها الأثر. فقد تأخر العثمانيون عن إغاثة الأندلسيين رغم استغاثتهم بها، لأسباب يختلف المؤرخون في تقديرها. فأنهى الإسبان الوجود الإسلامي فيها بسقوط غرناطة وتنكرهم لبنود معاهدة التسليم. وبعد أن حققوا وحدتهم السياسية والدينية تعاظم خطرهم. وفتح نجاحهم في حرب الاسترداد شهيتهم لقضم أراضي إسلامية أخرى وجعلوا شمال إفريقيا وجهتهم، حتى باتت تواجه مصيرا مشابها لمصير الأندلس. وكان لا بدّ للدولة العثمانية من أن تتجه إلى الحوض الغربي للمتوسط حتى لا تتكرر المأساة الأندلسية وحتى تحدّ من الطموح الإسباني. وتحول حوض المتوسط إلى ساحة لهذا الصّدام.
ومقابل وحدة الصف الإسباني كانت بلدان المغرب الكبير على غاية من التشتت. فقد كان المغرب الأقصى يعيش حالة من الهوان بسبب ضعف حكّام بني وطاس وتحوّل إلى ساحة للتنافس الإسباني البرتغالي. فاستولى البرتغاليون على سبتة وجعلوها منطلقا للسيطرة على مضيق جبل طارق. وكانت أهم المراكز الساحلية في المغرب الأوسط ترزخ تحت سيطرة الإسبان، في ظل عجز حكّام بني عبد الواد عن التصدي لهم. استنجاد الأهالي بالأخوين عروج وخير الدين المستقرين بجربة. فكاتبا سليما الأول الخليفة العثماني يستأذنانه في الأمر وبذلك أصبحا يواجهان الإسبان تحت اللواء العثماني وتمكنا سنة 1529 من طردهم من ميناء الجزائر.
ورغم الخضوع المتزامن لكل من الجزائر وتونس للنفوذ العثماني فإن قدر البلدين قد اختلف نسبيا. ففي الجزائر ظلت السلطة أساسا بيد العناصر التركية رغم طول المدّة (من 1529 حتى 1830 تاريخ الاحتلال الفرنسي) واختلاف المراحل من حكم البايات إلى عهد الباشوات إلى النفوذ الإنكشاري ثم عصر الدايات. أما في البلاد التونسية فلأسباب داخلية وأخرى خارجية لم تتجاوز هيمنة العسكر الذي مال إلى العسف والقسوة، القرن لتنفلت السلط من بين يديه وتستأثر بها عناصر يصفها الباحث بالمحلية.
فقد وقف الأهالي في وجه تجاوزات السلطة وانتفضوا على قضاء الأيالة الذي كان يعين من قبل شيخ الإسلام في إسطمبول ويكون حنفيا، على مذهب الحكم في الباب العالي على خلاف مذهب أهل البلاد المالكي. فأحدثوا تحوّلا على مستوى العناصر المتحكمة في السلطة. فعلى المستوى القانوني ضبطت علاقات الاتراك بالأهالي في دفتر أقرب إلى دستور، سُمّي بالميزان أو الزمام الأحمر. فقُنّنت الصلات بين الطرفين واعترفت السلطة ضمنا بما لحق الأهالي من التجاوزات. أما على مستوى الاجتماعي فقد أفسح المجال للأهالي لتولي المسؤوليات وأقحموا في المؤسسات الحساسة. ورُدّ الاعتبار للعلماء المحليين.
3 ـ تفاعل المغاربة مع حركة الجامعة الإسلامية.. حرب طرابلس الغرب أنموذجا
يمكننا أن نتخذ من نكبة طرابلس الغرب عيّنة دالة على وقع الجامعة الإسلامية في النّفوس. فقد مثّلت الحرب الإيطالية اللّيبية ودافعا أوقد نار الحمية في صدور المسلمين وأسهم في اتحادهم وتكاتفهم للدفاع عن بيضة الإسلام وجمعت معاركها بين مسلمين من مختلف الأقطار. فكانت تطبيقا قويا لمبادئها. فأجمعت الصحف التونسية على عمق الإهانة وعظيم الجرم الذي أقدمت عليه إيطاليا وسعت إلى تدعيم ولاء المسلمين للدولة العثمانية. فأسس علي باش حانبة جريدة الاتحاد الإسلامي التي ذهبت إلى أن المسلمين "يعتقدون أن كلّ يد تمتد بالأذى لدولة الخلافة يدُ عدو لدود.. لكل المسلمين الذين عبّروا عن ولائهم ومعاضدتهم للخليفة العثماني".
بعد نحو ثلاثة قرون تغيرت الموازنة جذريا. فالدولة العثمانية العسكرية باتت منهكة القوى. وأضحت بدورها هدفا لأطماع الدول الأوروبية المعادية وبات وجودها مهدّدا من الداخل والخارج معا. ولئن تراجع النفوذ الإسباني فإن البلدان المغاربية أصبحت تواجه خطر الاستعمار الفرنسي. فكانت حركة الجامعة الإسلامية التي أسسها السلطان عبد الحميد محاولة المنهكين لاستعادة أنفاسهم وجمع قواهم.
واعتبرت جريدة الصواب أن اعتداء إيطاليا على طرابلس اعتداء على الدولة العلية وعلى 300 مليون مسلم يفدونها بالمهج والأرواح. واعتبرت جريدة التونسي أنّ التونسيين وغيرهم ثاروا ضد الغزو الإيطالي لأنه نال من حرمة السلطان العثماني وأن من اعتدى عليه قد اعتدى على الإسلام ذاته. وفتح الشبان التونسيون باب التطوّع للقتال. وعبّر الجزائريون عن تضامنهم مع إخوانهم في طرابلس وعلّقت الملصقات الحائطية الداعية للتضامن أمام قنصلية إيطاليا وفُتح الاكتتاب لصالح الجرحى وحُولت مبالغ هامة لفائدتهم وكان عمر بن قدور صاحب جريدة الفاروق ينبه إلى أن غزو إيطاليا "بداية انفراط العقد الإسلام وبداية سقوط حباته الواحدة تلو الأخرى" معتبرا أنّ العالم الإسلامي أمام الفرصة الأخيرة ليستفيق من كبوته. وظلّ المغرب الأقصى يتأثر بما يحدث في الدولة العثمانية رغم عدم خضوعه للنفوذ العثماني. فنشأت حركة فتيان المغرب المماثلة لحركة تركيا الفتاة وعبرت لسان المغرب الجريدة الطنجانية عن دستور مستمد من حيث الجوهر والشكل من دستور تركيا 1876.
4 ـ صدى حركة الجامعة الإسلامية وبعد؟
لهذا الأثر قيمة توثيقية بيّنة لا تصدر إلا عن باحث مؤرّخ في قامة التليلي العجيلي. فقد تنوعت مصادره وتعدّدت مراجعه وبدا عناء البحث جليّا في صفحاته. وأغنى ملاحقه بالوثائق النّادرة. وبيّن البون الشاسع بين الأحلام السياسية وسلطة الواقع. فعلى الأرض لم يتجاوز الأمر الأقوال والنوايا الحسنة والرّغبات لأن الدولة العثمانية كانت عاجزة عن حماية نفسها، فما بالك بتحرير أوطان قصيّة مغتصبة. ومع ذلك فلابدّ من ملاحظتين على الأقلّ. فلم يكن الأثر متوازنا من جهة المعلومات التي قدّمها. فأفاض في كل ما يتعلّق بالشأن التونسي وكان شحيحا في كل ما له صلة بباقي الأقطار المغاربية. ولا شكّ أنّ لتخصّص الباحث في التاريخ التونسي دورا في ذلك.
وكان يعطي الانطباع بأن الدولة العثمانية قد تخّلت عن الأندلس أو تواطأت ضدها وهو يعرض بداية الاحتكاك بين الدولة العثمانية وبلدان الغرب الإسلامي. وهذه أطروحة قوية تسري في مؤلفات الكثير من المؤرخين. ولكن لابدّ من الإشارة إلى أطروحة مضادّة تترسّخ اليوم مدارها على أنّ توسّع الإمبراطورية العثمانية وترامي أطرافها ومجاورتها لإمبراطوريات معادية ومشاكل داخلية مثّل العائق الأساسي في عدم نصرة الأندلسيين بالقدر الكافي.
فالفتح العثماني لمدينة القسطنطينية (1453م) أشعل أمام جيوش السلطان محمد الفاتح جبهات جديدة. ووصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي وتهديدهم للحدود الجنوبية للعالم الإسلامي ضاعف من تشتيت جهوده. وظهور الصفويين في المشرق حدّ من اتجاههم إلى المغرب. ولمّا آل الأمر إلى ابنه بايزيد واجه نزاعا على العرش. ولم يكن بوسعه إلا أن يتحالف مع السلطان المملوكي الأشرف قايتباي ليرسل أسطوله إلى سواحل الأندلس بقيادة كمال رئيس. ولكن ذلك لم يكن كافيا. ولم يبق للعثمانيين غير تشجيع البحارة الأتراك على شن غاراتهم على القوات الإسبانية. وما ظهور الأخوين عروج وخير الدين بربروس في غرب المتوسّط إلا تجسيدا لهذا المشروع.