هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
سأظل أذكر الناس باستمرار، بما رواه عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني في لقاء تلفزيوني عن رؤيا منامية لوالده بشره فيها بأن يحكم السودان، وتبرع البرهان بتذكير من كان يحاوره بأن التوقيع على الوثائق التي نصت على تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين بعد الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير، والتي جعلت منه رئيسا لمجلس السيادة، كان ذلك في الـ 11 من تموز (يوليو) (2019) أي متوافقا مع يوم مولده، وشخص يختزن تلك الواقعة ويرددها أمام الملأ، لا شك في أنه يريد أن يقنع الناس بأن صعوده الى سدة الرئاسة في بلاده أمر تباركه السماء، وتأسيسا على ذلك فإن من يعارض صعوده ذلك يستحق عقاب الدنيا والآخرة.
والبرهان كما معظم العسكريين الذي استولوا على الحكم في بلدانهم صنيع الصدفة، فقد عمل 30 سنة في كنف القوات المسلحة، وأقصى أمانيه أن يحظى بـ "صورة" مع قائده ورئيس البلاد السابق عمر البشير، فإذا بثورة تتفجر مطالبة برحيل البشير، وإذا باللجنة الأمنية العسكرية المكلفة بحماية نظام البشير تدرك أن الثورة على وشك تحقيق مراميها، ومن بينها التخلص من البشير وكبار أعوانه (ومن بينهم أعضاء اللجنة)، فكان أن قررت اللجنة أن تنقلب على البشير، ليس انحيازا للثورة ولكن لقطع الطريق أمامها، على أمل أن تؤدي إزاحة البشير إلى تهدئة الثوار، ثم حدث صراع بين القيادات العسكرية إثر اكتشافهم أن الثوار ليسوا بالسذاجة التي حسبوها، فانسحب بعضهم من المشهد طائعين والبعض مكرهين، ووجد البرهان نفسه فجأة في صدارة المشهد.
صعد عسكريون كثر إلى كراسي الحكم في بلدانهم بمحض الصدفة كما البرهان، فقد استغل ديكتاتور يوغندا عيدي أمين حال الفوضى والاضطرابات في بلاده ونصب نفسه رئيسا عليها، وفعل نفس الشيء منغستو هايلي مريم في إثيوبيا، وموبوتو سي سيكو في الكنغو وبرويز مشرف في باكستان، وحسني مبارك في مصر.. أما بشار الأسد فقد تعسكر بعد الوصول إلى قصر الرئاسة خالعا جلباب الطبيب، ومواصلا تقاليد "العائلة" في تعزيز قبضته على السلطة بالبطش بلا هوادة بكل من يأنس منهم معارضته.
ولأن معظم العسكريين الذين يصلون إلى كراسي الحكم على متون الدبابات يدركون أنهم بلا "مشروع" أو سند شعبي، فإنهم وبموازاة استخدام أسلحة القهر والقمع يحيطون أنفسهم بالمحاسيب ويجعلون الفساد مؤسسيا ليتسنى لهم شراء الذمم والولاءات، وفيما يتعلق بالبرهان فقد وجد نفسه على رأس السلطة في بلد خزائنه فارغة، وليس فيها ما يعينه على شراء الذمم، فكان أن وجد في محمد حمدان دقلو (حميدتي) ما يسد تلك الفجوة، فللأخير إلى جانب الآلة العسكرية الغاشمة (قوات الدعم السريع) التي تدين له بالولاء الشخصي، موارد مالية ضخمة كونها من دخول سوق الذهب إنتاجا وسلكا وتصديرا ثم صارت له شبكة من الشركات تعمل في مجالات التصدي والاستيراد تدار من خارج الحدود، وهكذا ـ ونظير أن يصبح الرجل الثاني في هرم السلطة في البلاد تولى حميدتي توزيع العطايا بالتريليونات، على العاملين في مختلف أجهزة الدولة، ولما أدرك أن مردود ذلك هزيل، شرع في إحياء وإذكاء النزعات القبلية وغمر العمد (جمع عُمدة) ومشايخ القبائل بالهدايا العينية والنقدية، بل تمت فبركة قبائل وزعامات قبلية جديدة لتصبح حواضن شعبية له وللبرهان.
لأن معظم العسكريين الذين يصلون إلى كراسي الحكم على متون الدبابات يدركون أنهم بلا "مشروع" أو سند شعبي، فإنهم وبموازاة استخدام أسلحة القهر والقمع يحيطون أنفسهم بالمحاسيب ويجعلون الفساد مؤسسيا ليتسنى لهم شراء الذمم والولاءات،
ومن حيل الدكتاتوريين اصطناع عدو خارجي، وفكر البرهان ثم قدر وقال لنفسه: مصر تحتل مثلث حلايب وشلاتين الذي يتمسك السودانييون بتبعيته لبلادهم، ولكن رئيس مصر السيسي أحد كفلائي، وحتى لو لم يكن كذلك فليس لي طاقة بالجيش المصري، وهناك الجارة تشاد والتي تقوم بتصدير مشاكلها إلى السودان، ولكن التحرش بها سيفتح صندوق باندورا ويجعل الحركات المسلحة في دارفور والتي لدى عناصرها امتدادات قبلية في تشاد وعلاقات مصالح مع حكومتها تنقلب عليّ، ولو دخلت في صراع مع جمهورية جنوب السودان فإن ذلك سيثير حفيظة معظم أفراد الشعب الذين ما زالوا متوجعين من انفصال ذلك الجزء من بلادهم.
وهكذا لم يجد البرهان أمامه سوى إثيوبيا التي ظلت تعاني من اضطرابات داخلية على مدى عقود طوال، فجعل من تحرير منطقة الفشقة الحدودية جوهر مخططه لتصوير نفسه كبطل وطني مغوار تلتف الجماهير من حوله، والفشقة هذه لم تكن تخضع للاحتلال الإثيوبي بل لاحتلال من قبل عصابات من قبيلة الأمهرا الإثيوبية، ولكن البرهان صور طرد تلك العصابات من الفشقة على أنها أم المعارك، رغم أن عملية الطرد لم تستغرق سوى أيام معدودة، وكلما واجه البرهان مأزقا داخليا هرع إلى الفشقة لتحريرها مجددا.
صار من الواضح أن البرهان يقتدي ببشار الأسد وأنه يهيئ الأجواء لاستدراج خصومه إلى مواجهات مسلحة، يحسب أنه وبمساندة قوات الدعم السريع قادر على حسمها لصالحه ولو تمزق السودان إلى أشلاء.
قراءة المشهد الراهن في السودان، حيث البرهان هو الكل في الكل، في غياب مجلس للوزراء أو برلمان أو تنظيم سياسي يدعمه، وفي ظل تظاهرات يومية رافضة لوجود العسكر وتحديدا البرهان وحميدتي في أيٍّ من هياكل الحكم، صار من الواضح أن البرهان يقتدي ببشار الأسد وأنه يهيئ الأجواء لاستدراج خصومه إلى مواجهات مسلحة، يحسب أنه وبمساندة قوات الدعم السريع قادر على حسمها لصالحه ولو تمزق السودان إلى أشلاء.
التشرنق مرحلة متقدمة من التشكُّل، ويعني الاقتراب من استكمال التحول، ولكن واقع الحال في السودان يؤكد أن البرهان لن يتجاوز تلك المرحلة في مسعاه للانفراد بالحكم، بل والراجح أنه بات مدركا عوار وضعف مخططاته، كالتصدي للمظاهرات الرافضة له بإغلاق الجسور بين المدن وتقتيل المتظاهرين والاستعانة بنفر من المدنيين سرعان ما اتضح أنهم من ذوي الاحتياجات السياسية والفكرية الخاصة، وقريبا قد يقتصر طموحه على الحصول على إعفاء من المساءلة على عديد الجرائم التي اقترفها بحق وطنه ومواطنيه.