هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لطالما ظل المجلس التشريعي الفلسطيني منذ تأسيسه في القرن الثامن عشر الميلادي في العهد العثماني هو الذي يدير الأمور في فلسطين من خلال نواب منتخبين، إلى أن انهارت الدولة العثمانية عام 1917م لتشهد الحقب التي تلتها محاولة لوأد هذه التجربة البرلمانية وإقصائها.
وحاول البريطانيون بعد احتلال فلسطين السيطرة على المجلس التشريعي، فيما سعت الإدارة المصرية إلى احتوائه، وجاء الاحتلال الإسرائيلي وقتل هذه التجربة وحول مقر المجلس التشريعي في غزة إلى مقر للحاكم العسكري ومركز اعتقال.
وبعد اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية عام 1993م، حولت السلطة الفلسطينية التي استلمت زمام الأمور من الاحتلال بعد إعادة الانتشار، هذا البرلمان إلى منتدى للمثقفين وقادة الرأي رغم محاولتهم التشريع والرقابة، في حين يتطلع الفلسطينيون إلى أن تكون الانتخابات المقبلة للمجلس التشريعي المزمع عقدها في أيار/ مايو المقبل تجربة مختلفة تعيد للبرلمان الفلسطيني دوره الحقيقي في حياة الشعب الفلسطيني.
وقال النائب الأول لرئيس المجلس التشريعي الدكتور أحمد بحر: "المجلس التشريعي يلعب دورا بالغ الأهمية في حياة الشعب الفلسطيني، فهو يضطلع بمسؤولياته البرلمانية والوطنية والسياسية والقانونية، وقد شهد شعبنا الفلسطيني الدور السياسي للمجلس التشريعي من خلال الحضور الفاعل على الساحة الوطنية الفلسطينية، والمشاركة المباشرة في تعزيز صموده والدفاع عن حقوقه وثوابته الوطنية، وتنظيم الفعاليات المختلفة في المناسبات الوطنية، والتفاعل والتعليق على القضايا والشؤون والمستجدات والتطورات السياسية، وتفعيل الدبلوماسية البرلمانية عبر تشكيل الوفود البرلمانية لزيارة الدول والبرلمانات المختلفة، والعمل على مخاطبة والتواصل مع البرلمانات العربية والإسلامية والدولية والاتحادات البرلمانية العربية والإسلامية والأوروبية والإفريقية والآسيوية، وحشد الدعم والتأييد للقضية الفلسطينية في المحافل الإقليمية والدولية، وإطلاع الرأي العام الدولي على حجم الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني بحق أبناء شعبنا والمعاناة التي يعيشها أهالي قطاع غزة بفعل الحصار المفروض على قطاع غزة".
وأضاف بحر في حديث لـ"عربي21": "لا يختلف إثنان على أن غزة تشكل أحد أهم مراكز الثقل السياسي الفلسطيني، وبؤرة العمل الوطني والكفاحي الفلسطيني، وشعلة المقاومة والصمود على مدار التاريخ، من هنا لم يكن غريبا أن تشهد غزة نشأة وتأسيس أول مجلس تشريعي فلسطيني حديث في 15 آذار/ مارس 1958، وأن تشكل غزة نقطة انطلاق في إطار ومسارات العمل السياسي الفلسطيني".
وأوضح أنه عقب تأسيس السلطة الفلسطينية، ودوران العجلة الديمقراطية، وإجراء الانتخابات التشريعية عام 2006، ومشاركة القوى والفصائل الوطنية الفلسطينية فيها، وما أدت إليه من فوز حركة "حماس" فيها، استشعر الاحتلال الخطر الكبير الذي يمثّله نواب حماس الذين يحملون الفكر والمنهج المقاوم، وما يسعون له باتجاه إعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني على أسس وطنية ومهنية سليمة، والدفع باتجاه بناء استراتيجية وطنية موحدة لإدارة الصراع مع الاحتلال، وإنجاز المشروع الوطني التحرري، فما كان منه إلا أن أقدم على قصف مقر المجلس التشريعي في الأول من كانون الثاني/ يناير 2009م، ودمره بالكامل، في محاولة لتغييب الدور والجهد البرلماني الفلسطيني".
وقال بحر: "نحن نطمئن أبناء شعبنا وأمتنا أن المجلس التشريعي سوف يستمر في أداء رسالته الوطنية ودوره السياسي وواجباته البرلمانية بهدف خدمة أبناء شعبنا وإسناد قضيتنا الوطنية ومواجهة الاحتلال الصهيوني وتعزيز مشروعنا الوطني التحرري، ولن يثنيه عن ذلك أشكال التآمر حتى النصر والتحرير".
واستعرض الباحث أمجد الآغا تأسيس المجلس التشريعي والحقب التاريخية التي مر بها، وكيف كان له دور فاعل ومؤثر في حياة الشعب الفلسطيني منذ بداية تأسيسه عام 1877م في العهد العثماني.
ووصف الآغا في حديثه لـ"عربي21" السلطة التشريعية بأنها "أم السلطات" باعتبارها المنوط بها حفظ التوازن وضبط الإيقاع في النظام السياسي من خلال ممارسة التشريع والرقابة على الحكومة وإقرار الموازنة العامة وتحسس احتياجات المجتمع والتعبير عنه.
وقال: "التجربة البرلمانية الفلسطينية شُيدت معالمها الأولى خلال مرحلة الخلافة العثمانية وما تبعها من مراحل عكست الوعي المبكر للإنسان الفلسطيني بأهمية التمثيل البرلماني والمشاركة السياسية، بل كشفت هذه المراحل عن مستوى راق ومُتقدم للأداء البرلماني وأبرزت مدى الثراء الذي يكتنف هذه التجربة العريقة التي خلّفت مواقف مشرفة ومحطات مشرقة في الذاكرة الفلسطينية".
وأوضح أن هذه التجربة شكلت التمثيل البرلماني للفلسطينيين في العهد العثماني كأول الممارسات البرلمانية في فلسطين.
وأضاف: "تعود بداية المشاركة الفلسطينية في الانتخابات إلى العام 1877م، حيث مثل النائب يوسف ضيا الخالدي مدينة القدس في مجلس (المبعوثان) في مدينة الأستانة التركية".
وأوضح الباحث الفلسطيني أن المرحلة الثانية كانت مرحلة الانتداب البريطاني والتي انتهت بعد انهيار الحكم العثماني وخضوع فلسطين للاحتلال العسكري البريطاني سنة 1917م.
وأشار إلى أن صك الانتداب البريطاني شكل الدستور الذي صدر في العاشر من آب/ أغسطس 1922م والذي اشتمل على إنشاء مجلس تشريعي لفلسطين.
وأكد الآغا أن المندوب السامي أراد أن يكون المجلس التشريعي أداة بيده ومجردا من أية صلاحيات فعلية.
وحول المرحلة الثالثة للبرلمان في ظل الحكم الأردني والمصري (1948- 1967) أشار الآغا إلى أنه بعد عقد مؤتمر أريحا في الأول من كانون أول/ ديسمبر 1949م أجريت أول انتخابات برلمانية شملت الضفتين الشرقية والغربية في 11 نيسان (أبريل) 1950م، وفي سنة 1952م صدر الدستور الأردني الذي تضمن ضم الضفتين "الغربية والشرقية" وانشاء برلمان موحد بينهما يتألف من عددٍ متساوٍ من النواب من كلا الضفتين، وقد مارس هذا البرلمان نشاطاً تشريعياً واسعاً حيث شهدت تلك الفترة نشاطا تشريعيا واسعا.
أما في قطاع غزة فقد عمدت الإدارة المصرية إلى عدم ضم القطاع للسيادة المصرية وإبقائه تحت إدارة ورقابة القوات المسلحة المصرية، التي أصدرت في سنة 1955م القانون الأساسي لقطاع غزة رقم 255 لسنة 1955م وقد تضمن تشكيل مجلس تشريعي يرأسه الحاكم الإداري العام، بحسب الآغا.
وأوضح أنه تم تعيين أعضاء المجلس بحكم مواقعهم الوظيفية وقد استمر هذا المجلس والمشكل بطريق التعيين ثلاث سنوات حتى سنة 1962م ولم تسجل له أية إنجازات.
وفي الخامس من آذار/ مارس 1962م، أصدر الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر النظام الدستوري لقطاع غزة، وقد روعي في تشكيل المجلس التشريعي أن يكون مؤلفاً من (41) عضواً بحيث يضم أعضاء المجلس التنفيذي، ومن (22) عضواً ينتخبهم الأعضاء المنتخبون لعضوية اللجان المحلية للاتحاد القومي العربي الفلسطيني طبقاً لنظام الانتخاب.
وأوضح الآغا أن المجلس التشريعي في أول جلسة له بتاريخ 23-6-1962 انتخب رئيساً له وهو الدكتور حيدر عبد الشافي (السياسي الفلسطيني الشهير) الذي ترأس المجلس التشريعي بغزة خلال الفترة (1962- 1965).
وقد انتهت ولاية المجلس التشريعي بتاريخ 22-6-1965م ولم يجدد له ولم يتم انتخاب مجلس آخر، وقد ظلت وزارة الدفاع المصرية تؤجل إجراء الانتخابات لمجلس جديد وظلت القوانين تصدر عن الحاكم العام بإرادة منفردة خلال الفترة (1965- 1967) حتى وقوع احتلال حزيران (يونيو) 1967.
وبعد عدوان حزيران (يونيو) واحتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، باتت تلك المناطق تحت الإشراف المباشر للاحتلال الإسرائيلي ولنظام حكم عسكري، حيث لم تلتفت الإدارة العسكرية لقطاع غزة آنذاك لاستكمال النشاط البرلماني والبناء عليه، بل على العكس. وهذه كانت ملامح المرحلة الرابعة من التجربة البرلمانية.
وقال الآغا: "إن الاحتلال الإسرائيلي عمد إلى وأد التجربة البرلمانية الفلسطينية وإحلال إرادة الحاكم العسكري محلها ممثلة بالأوامر العسكرية".
وأضاف: "إمعاناً من الاحتلال في طمس معالم التجربة البرلمانية الفلسطينية حوّلت إدارة الاحتلال في قطاع غزة مبنى المجلس التشريعي الرئيس في وسط قطاع غزة الذي شُيّد في عهد الإدارة المصرية إلى مركز اعتقال واحتجاز للفلسطينيين، وبالتالي فقد تحول المبنى من رمز للتعبير عن إرادة الفلسطينيين إلى مقر لسلب الإرادة الفلسطينية ومصادرة الحريات".
وقد ورد ذكر "المجلس التشريعي" في اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل عام 1993، حيث نصت الاتفاقية على إنشاء مجلس حُكم ليملأ الفراغ الناتج عن انسحاب القوات الإسرائيلية. وهي تمثلت في المرحلة الخامسة حيث تم انتخاب المجلس التشريعي الأول في العشرين من كانون الثاني/ يناير لسنة 1996م.
وأوضح الآغا أن نتائج الانتخابات التشريعية الأولى في ظل السلطة أفرزت نوابا في المجلس التشريعي عددهم (88) نائباً معظمهم من لون سياسي واحد وهو حركة فتح، والباقون هم مستقلون وبعض المعارضين، حيث ظل هذا المجلس لمدة 20 سنة وتناوب على رئاسته كل من أحمد قريع، ورفيق النتشة، وروحي فتوح، إلى أن أجريت الانتخابات التشريعية الثانية في كانون الثاني/ يناير عام 2006 والتي فازت بها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وانتخب الدكتور عزيز دويك رئيسا للمجلس، وذلك بعد رفع عدد النواب إلى 132 نائيا.
وقد قصفت طائرات الاحتلال في كانون الثاني/ يناير 2009 مقر المجلس وتم تدمير المبنى التاريخي القديم منه حيث تمت إعادة بنائه مجددا.
وأعلن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن عقد الانتخابات البرلمانية الجديدة في أيار/ مايو المقبل.
ومن جهته قال شرحبيل الغريب، رئيس منتدى العلاقات الدولية للحوار والسياسات: "على الرغم من اختلاف الحقب التي مر بها المجلس التشريعي منذ تأسيسه قبل قرابة قرن ونصف القرن، إلا أن ذلك يؤكد على أهميته ودوره ومكانته ورمزيته لكونه سجل له الدور الأبرز في إدارة شؤون العامة، حتى تسلمته الإدارة المصرية في فترة سجل أنها المحطة الأهم في حياة الشعب الفلسطيني، إلا أنها أخذت طابع الحكم العسكري المصري لقطاع غزة مرورا بسيطرة الاحتلال الإسرائيلي عليه وتحويله إلى مقر القيادة العسكرية الإسرائيلية وما شهدته من فترة قاسية على الشعب الفلسطيني".
وأضاف الغريب لـ"عربي21": "بعد قدوم السلطة الفلسطينية عام 1994م كانت هناك مرحلة جديدة لأول مجلس تشريعي في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات في الانتخابات التي أجريت عام 1996م والتي حازت فيها حركة فتح على أغلبية وسط مقاطعة حركتي حماس والجهاد الإسلامي".
وأوضح أن هذه المرحلة سمحت لفتح ومنظومة السلطة الفلسطينية بالسيطرة الكاملة على المشهد السياسي والقانوني، مؤكدا أن أهم ما سجل في هذه المرحلة أنه برلمان عمل خدمة لسياسات حركة "فتح" كسلطة الحزب الواحد.
وأشار إلى أن هذا البرلمان الذي استمر 10 سنوات لم يشهد حالة اختلاف ومعارضة سياسية حقيقية بينما كان يعبر عن حالة من الصراع بين السلطة التشريعية والتنفيذية والرئاسية أي ما يعرف بصراع الصلاحيات، والمحافظة على أكبر مساحة للسيطرة على جزء من المشهد السياسي والقانوني، ولم يسجل أنه سن قوانين تخدم جوهر القضية الفلسطينية وحماية القدس وإسناد المقاومة بل كرس من صلاحياته حتى آخر لحظة له قبل انتخابات عام 2006م.
وقال الكاتب والمحلل السياسي: "شهدت المرحلة الأخيرة من البرلمان الفلسطيني تجربة ربما وصفت بالجديدة وغير الطبيعية في أن تسجل حماس أغلبية ساحقة في البرلمان وتسيطر على المشهد السياسي الفلسطيني، حيث لم ترق هذه التجربة لكل من المجتمع الدولي والرباعية والمنطقة العربية بعينها، وحتى الاحتلال الإسرائيلي فقد حارب هذه التجربة بشراسة ووصل الأمر لاعتقال كل نوابه".
وأضاف: "واجه المجلس التشريعي الأخير الذي سيطرت عليه حركة حماس تحديات على أصعدة عدة، وعملت أطراف داخلية وخارجية على إفشاله، الأمر الذي أوصل الحالة الوطنية الفلسطينية إلى الانقسام السياسي والقانوني والإداري وأفرز سلطة تنفيذية وأخرى تشريعية في غزة ومماثلتين لهما في الضفة الغربية، وهو ما يسجل عملية تعطيل مقصودة لوأد هذه التجربة من جذورها، ما دفع كتلة حماس البرلمانية إلى أن تمارس دورها بشكل منفرد حيث قامت بسن قوانين وتشريعات على أكثر من صعيد وطني ومدني، وسجل لها سن قوانين تتعلق بحماية المقاومة وتجريم التنسيق الأمني بالإضافة للقوانين التي تنظم حياة الناس بعيدا عن الاستسلام لسياسة الأمر الواقع وقد عملت أطراف على قتل هذه التجربة منذ فوزها".
وفي تقييم عام للتجربة الأخيرة للمجلس التشريعي قال الغريب: "إن المجلس الأخير لم يقم بمهام طبيعية وسط بروز تنافسية من باقي الكتل والقوائم التي تعتبر معارضة حيث قاطعت عمل التشريعي بحكم الظرف السياسي العام وهذه تعد جريمة سياسية وقانونية ووطنية واستحقاقا بأصوات الشعب الذي انتخب ممثليه بانتخابات شهد العالم أجمع بنزاهتها".
وأعرب الغريب عن أمله في أن يعكس البرلمان الجديد صورة حقيقية وذلك بضم مختلف الألوان السياسية بعيدا عن لغة الإقصاء أو التهميش تحكم فيه كل الأطراف بمشهد فيه الشراكة لا الإقصاء، مشهد فيه أن تمارس السلطة التشريعية كامل صلاحياتها في التشريع والرقابة على أداء السلطة التنفيذية، بعيدا عن لغة السيطرة والإقصاء، وأن يقوم المجلس بمراجعة أكثر من 275 قرارا بقانون قام الرئيس الفلسطيني محمود عباس بإصدارها فترة الانقسام.
وقال: "هناك تحديات كبيرة بانتظار المجلس التشريعي الفلسطيني القادم على أكثر من صعيد وهو ما يزيد من المسؤولية الملقاة على عاتقه، أن يعطى المجلس صلاحياته الحصرية كاملة بعيدا عن حالة التغول أو الإقصاء في سن قوانين جديدة تنظم شؤون العامة".