هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تلقت الحركات الإسلامية بقلق وانزعاج شديد التفاهم المغربي الأمريكي، وقرأت في مضمونه مقايضة سياسية، بين إنهاء النزاع حول الصحراء بالاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وبين التطبيع مع تل أبيب، ولم تستسغ أن يأتي هذا القرار في ظل حكومة يرأسها الإسلاميون في المغرب، وترقب الكثيرون أن يكون لهذا القرار تداعياته على مستوى العلاقات المؤسسية داخل المغرب، وأن يجد العدالة والتنمية نفسه في حرج الموقف، فيضطر إما إلى مسايرة موقف الدولة، ويجد نفسه بذلك في تصادم مع ثوابته واختياراته المرجعية، بل ويجد نفسه بعيدا عن قاعدته الانتخابية التي تجد فيه الحزب الوفي لقضايا الأمة وفي مقدمتها قضية فلسطين، وإما أن ينحاز لمواقفه واختياراته الثابتة، ويدخل في صراع مؤسساتي مع الدولة، ينتهي في الحدود الدنيا بالخروج من الحكومة، والإعلان عن البراءة من المشاركة في التطبيع الرسمي مع تل أبيب.
والحقيقة أن هذا الانزعاج أو هذه الصدمة لم تكن من نصيب الحركات الإسلامية والقومية خارج المغرب، وإنما أصابت حتى إسلاميي المغرب أنفسهم، بل تعرضت الحركة الإسلامية المشاركة في العملية السياسية لهزة عنيفة، إثر صدور هذا القرار المفاجئ، واختلفت أنظارها في ذلك، وبدأت تترقب مواقف مختلف الهيئات التي تشكل هذه المدرسة، سواء منها الهيئة الدعوية (حركة التوحيد والإصلاح) أو تيار الشبيبة الذي ينحاز دائما لخيار المقاومة (شبيبة العدالة والتنمية ومنظمة التجديد الطلابي) أو الهيئات الموازية المعنية بمقاومة التطبيع ونصرة القضية (لجنة العمل) أو الحزب الذي يقود الحكومة (حزب العدالة والتنمية).
وقد استعادت هذه الصدمة أجواء موقف الحزب من المعركة ضد فرنسة اللغة في برامج ومناهج التعليم، وكيف أجبر الموقع الحكومي قيادة الحزب إلى الانحياز ضد مواقفها واختياراتها المذهبية في نصرة اللغة العربية، محدثة رجة داخلية عنيفة، لم تنته بعد تداعياتها إلى اليوم.
وإذا كانت صدمة فرنسة التعليم، قد تمت في الظاهر ضمن المربع الحكومي، وضمن ديناميات العمل التشريعي، فعكست بذلك الصراع بين مكونات سياسية، فإن قضية التطبيع، قد أخذت بعدا مؤسساتيا، بحكم أن القرار اتخذه الملك، وتم الإعلان عنه في بلاغ ملكي، مما يعني أن أي جدل سياسي في الموضوع، يعني المواجهة العلنية لاختيارات الملك وقراراته الاستراتيجية.
الحركة والحزب.. الانقسام أم التمايز؟
كانت حركة التوحيد والإصلاح الأسرع في التجاوب مع قرار التطبيع، فقد تعاملت مع الاتفاق المغربي الأمريكي بشقيه، أي ما يتعلق بقضية الصحراء، وما يتعلق بالتطبيع، فجددت موقفها المبدئي المؤكد لمغربية الصحراء، ونوهت بالجهود الوطنية المبذولة دفاعا عن وحدة المغرب وسيادته، وأعلنت في المقابل تشبثها بموقفها الرافض والمستنكر لكل محاولات التطبيع والاختراق الصهيوني، بل إنها اعتبرت ما أقدم عليه المغرب تطورا مؤسفا وخطوة مرفوضة لا تنسجم مع موقف الدعم الثابت والمشرّفِ للمغرب، الذي يضع دائما القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، وحذرت من خطورة هذه التدابير المعلن عنها ومآلاتها السلبية، والتي تضع المغرب ضمن دائرة التطبيع مع الكيان الصهيوني وتفتح الباب أمام اختراقِه للمجتمع والدولة وتهديدهِ لتماسك النسيج المجتمعي واستقرار الوطن ووحدته، ولن تتردد في مخاطبة أولي الأمر والنصح بمراجعة الموقف والانحياز للثوابت التاريخية في تعاطيه مع القضية الفلسطينية والقدس الشريف.
لم يختلف موقف المنظمة الطلابية التابعة لهذه الحركة عن موقف الحركة الأم (منظمة التجديد الطلابي)، فقد جاء يحمل اللغة نفسها، وإن كان بيان شبيبة العدالة والتنمية أقل سقفا منه، إذ رغم تأكيده على موقف الشبيبة المبدئي الرافض للتطبيع مع الاحتلال (الإسرائيلي)، وتبرير جرائمه ضد الشعب المظلوم والأرض المحتلة في فلسطين، إلا أن لغته الباردة، لم تكن كافية لإرضاء مكونات الشبيبة، خاصة منهم الذين يريدون أن يكونوا على مسافة من التدبير الحكومي في التعاطي مع قضايا الأمة العادلة، وفي مقدمتها فلسطين.
بيان حزب العدالة والتنمية، لم يتأخر طويلا، وإن كان قد وقع من قبل نائب الأمين العام (سليمان العمراني)، لتحاشي حرج الموقف، بسبب الموقع الحكومي الذي يشغله الأمين العام، لكن لغته، كانت أكثر برودة، بل إن قضية فلسطين فيه جاءت على هامش صغير من هوامش القضية الوطنية، إذ لم تحظ إلا ببند صغير في آخر البيان، تم صياغته بلغة التذكير بمواقف سابقة، من الاحتلال دون الحديث عن الموقف الحالي من التطبيع، وما تضمنه الاتفاق المغربي الأمريكي من تطبيع للعلاقات بين الرباط وتل أبيب.
إذا كانت صدمة فرنسة التعليم، قد تمت في الظاهر ضمن المربع الحكومي، وضمن ديناميات العمل التشريعي، فعكست بذلك الصراع بين مكونات سياسية، فإن قضية التطبيع، قد أخذت بعدا مؤسساتيا، بحكم أن القرار اتخذه الملك، وتم الإعلان عنه في بلاغ ملكي، مما يعني أن أي جدل سياسي في الموضوع، يعني المواجهة العلنية لاختيارات الملك وقراراته الاستراتيجية.
واضح من خلال التباين في مضمون البلاغات ولغتها، أن ثمة تمايزا كبيرا بين الحركة وبين الحزب، بل بين الحزب وبين شبيبته، وهذا يجد تفسيره في الغالب بإكراه الموقع الحكومي، فعادة لا يستطيع قادة الحزب أن يأخذوا مسافة عن الدولة أو عن توجهها، حتى وإن كان ذلك يبتعد بهم عن مواقفهم واختياراتهم، وقد يكون لهم في بعض الأحيان إشارة إلى جزء من مواقفهم لإبداء قدر من التمايز عن موقف الدولة، وقد يضطرون إلى التماهي المطلق مع توجهات الدولة، بخلاف الحركة أو منظمتها الطلابية، أو حتى شبيبة الحزب، فإن تحلل هذه الهيئات من الموقع الحكومي، او ابتعادها عن إكراهات التدبير الحكومي، يجعلها حريصة على التشبث باختياراتها، حتى ولو اضطرت إلى إبداء معارضتها واختلافها مع اختيارات الدولة ومع مواقف الحزب.
قد يبدو الأمر، كما ولو كان يجري على قاعدة التمايز، التي يفسرها الإكراه الحكومي، لكن القضية حين تتعلق بالمرجعية أو الهوية أو نصرة القضايا العادلة للأمة، فإنها تتجاوز التمايز وتدخل منطقة الانقسام، لاسيما وان الحزب ذاته، لا يتقاسم أغلب مسؤوليه قرار القيادة، ويؤاخذون على القيادة عدم توسيع دائرة التداول في هذه القضية وعدم قصرها فقط على الأمانة العامة، كما حدث في قضية الموقف من فرنسة التعليم، التي طالب فيها عدد من أعضاء الفريق النيابي، فضلا عن الأستاذ عبد الإله ابن كيران بنقل النقاش في هذه القضية للمجلس الوطني وربما إلى المؤتمر، معللا ذلك بكونها من ثوابت الحزب وجزء من اختياراته في الورقة المذهبية التي لا يجوز بالمطلق التنازل عنها.
العدالة والتنمية والمجال المحفوظ
يحشد عدد من قيادات العدالة والتنمية بعض الحجج من أجل الدفاع عن موقفهم، ومنها حجة المجال المحفوظ، وأن الملك، بموجب الدستور أو بموجب الاعتبار الاستراتيجي، يحتفظ بجملة صلاحيات، لا يجب منازعته فيها، وأن منها قضايا الأمن والدفاع والدين، ويدخل فيها البعض السياسية الخارجية، لاسيما ما يرتبط بالقضية الوطنية.
ومع الخلاف والتباين في قراءة هذه الصلاحيات، وما هو دستوري منها وما هو عرفي، فإن سوابق الحزب في التعاطي مع القضية الفلسطينية، وفي نقد سياسات التطبيع، لم تكن تأخذ بالاعتبار هذه الحجة، فما كان يهم الحزب في مرحلة المعارضة السياسية، بل وحتى في مرحلة مهمة من التدبير الحكومي، هو التأكيد على رفضه للانخراط في مسار التطبيع، بل والسعي نحو تجسير العلاقة بين حركات المقاومة الفلسطينية وبين السلطة السياسية، أو على الأقل، تمكينها من الدخول للمغرب والمشاركة في فعاليات خطابية داعمة للمقاومة.
ويستند البعض الآخر لحجة أخرى، يحاول من خلالها التمييز بين مستويات العمل الحكومي، وأن الحزب لا يتحمل القرارات التي لا تصدر عنه، وأنه يتحمل فقط مسؤولية القرارات التي تصدر عنه بصفته مسؤولا عن صلاحياته الدستورية أو السياسية. لكن مشكلة هذه الحجة، أن الحزب في مواقعه المختلفة، سيكون مضطرا إلى التعاطي مع ما يترتب عن التطبيع من اتفاقات وعلاقات قطاعية، ربما يرأس بعضها، فيضطر إلى الجلوس مع مسؤولين صهاينة لإبرام اتفاقات أو التفاهم أو التنسيق حول تدابير وآليات، وغير ذلك مما يستلزمه العمل المشترك.
ما كان يهم الحزب في مرحلة المعارضة السياسية، بل وحتى في مرحلة مهمة من التدبير الحكومي، هو التأكيد على رفضه للانخراط في مسار التطبيع، بل والسعي نحو تجسير العلاقة بين حركات المقاومة الفلسطينية وبين السلطة السياسية، أو على الأقل، تمكينها من الدخول للمغرب والمشاركة في فعاليات خطابية داعمة للمقاومة.
ويلجأ البعض الآخر إلى حجة هجومية، يحاول من خلالها التمييز بين المنطق المبدئي وبين المنطق السياسي، وأن مصلحة الدولة هي فوق مصلحة الحركات، وأن المغرب ما دام قد أمن موقفه من القضية الفلسطينية، بكونه لم يغير ولن يغير من شكل ومضمون دفاعه عن ثوابت وحقوق الشعب الفلسطيني، ومن مقاربته القائمة على حل الدولتين، فإن التطبيع ليس له إلا حكم الضرورة التي تقدر بقدرها، فينتفع من مكاسبها (الصحراء) ويحذر من مفاسدها (التأكيد على موقف المغرب من القضية الفلسطينية وعدم تفويت مصالح ذلك)، وألا شيء يلزم المغرب بالاستمرار في علاقات دائمة مع تل أبيب، فقد كانت له علاقات سابقة من خلال مكتب الاتصال الإسرائيلي، واضطر إلى تجميد هذا المكتب، وأن المغرب له استقلاليته في قراره السيادي.
ويذهب البعض بالحجج إلى أبعد مدى، ويرى ألا شيء في السياسة ثابت، وأن مواقف الدول تحكمها السياسية الشرعية القائمة على تقدير المصلحة، وأن مصلحة المغرب، في الاتفاق المبرم، هي الصحراء، أما التطبيع فشيء عارض، غير أساسي، وأن المغرب يملك أن يراجعه متى شاء، بخلاف الاعتراف الأمريكي بالصحراء، فهو مكسب ثابت، سيغير المعادلة رأسا على عقب، وينهي سنوات طويلة من معاناة المغرب من العداء الجزائري لمصالحه الحيوية.
لحد الآن، لم يجرؤ أحد من قيادات العدالة والتنمية على التحليق بحرية في فضاء النقاش بخصوص هذا الموضوع، لكن، ما يتم تداوله في الفضاء الأزرق من تعبيرات، يسمح باستخلاص هذه الحجج في محاولة لمدافعة حجج أخرى لتيار معاكس، يرى أن المغرب لن يربح قضيته الوطنية، من جراء وضع بيضه في سلة إسرائيل أو في سلة أمريكا أو في سلة الإمارات، وأن كامب ديفيد، وغيرها من اتفاقات السلام مع إسرائيل، تقدم دليلا على أن مصر لم تكسب شيئا من جراء الجري وراء الوعود الأمريكية والإسرائيلية.
هل هي نهاية العدالة والتنمية.. أم هو الإسفين الأخير في نعش قيادة الحزب؟
يتفق خصوم العدالة والتنمية والتيار المعارض للقيادة الحالية في العدالة والتنمية على أن موقفها الأخير من التطبيع مع إسرائيل، يعني نهاية العدالة والتنمية في المربع الحكومي، لكنهما يختلفان في شكل هذه النهاية.
فخصوم العدالة والتنمية يرون أن لا معنى لوجود العالة والتنمية في الحكم ما دام المغرب قد طبع مع إسرائيل، وأنه لم يكون مقبولا ولا منطقيا أن يجلس وزراء العدالة والتنمية جنبا إلى جنب مع وزراء الكيان الصهيوني، في حين يرى التيار المعارض للقيادة الحالية للعدالة والتنمية أن الأوراق كلها قد اجتمعت لتسقط شرعية هذه القيادة في المؤتمر القادم، إذ بالإضافة إلى النكسة الديمقراطية والحقوقية التي عرفها المغرب، وبالإضافة إلى ضعف المقاومة التي أبدتها الحكومة في وجه السلطوية، فقد انزاحت هذه القيادة عن مواقفها المرجعية والهوياتية الثابتة، فتنازلت في معركة فرنسة التعليم، وهي الآن، تستسلم في معركة تدبير الخلاف حول قضية التطبيع، فتم تمرير سياسية فرنسة التعليم في عهدها، ومر التطبيع أيضا في عهدها، وفقدت العدالة والتنمية كثيرا من قواعدها وأنصارها بسبب المواقف المترددة التي تبنتها قيادة الحزب.
ومهما يكن التقدير لخط القيادة، ومهما يكن حجم الحجج التي يمكن أن تحشد لدعم موقفها، فإن الثابت أن هذه القيادة تفقد عند كل محطة جزءا من قواعد الحزب الداعمة، فيسقط من المركبة شريحة من العاطفين عند كل موقف يبتعد عن اختيارات الحزب أو عن المواقف الديمقراطية المنحازة إلى الشعب، بل إن هذه القيادة باتت تفقد جزءا من تحالفاتها الأساسية كلما اقترب موعد المؤتمر، وأوشكت الولاية الانتدابية على الانتهاء، وأن مبررات خدمة الموقع وبناء التكتلات لا يصير لها أي جدوى، في ظل الرهان التنظيمي المركزي (المؤتمر).
ما من شك أن صدمة التطبيع سيكون لها آثار كبيرة، وسيكون لها بشكل خاص صدى انتخابي، وسيفقد حزب العدالة والتنمية بمقتضاها شريحة مهمة من قاعدته الناخبة الطبيعية، لكن، قد يرى البعض أن ذلك سيصب في مصلحة تيار معارض للقيادة الدكتور سعد العثماني، ظل طوال فترة ولايته على رأس الأمانة العامة، يقاوم أسلوبه في التدبير، ويطالب بتقوية الخط الإصلاحي، والتخلي عن خط التماهي مع السياسة السائدة.