قضايا وآراء

تونس بين الوباء الصحي والوباء السياسي

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
رغم أن فيروس كورونا هو فرصة ذهبية لتنزيل وعود حكومة محاربة الفساد والانتقال الاقتصادي والاجتماعي، ورغم أنّ الفيروس قد أثبت أن الكل سواسية أمام هذا الوباء "الشيوعي" أو "الأممي" بالمعنيين (بمعنى مصدره المرجّح ألا وهو الصين، وبمعنى أنه فيروس لا يعترف بأي حدود أو أيديولوجيا أو بأية سياسات تخرج عن مركزة القرار وتأميم الموارد والتحرك في أفق"الوحدة الوطنية"، بل وحدة المصير الانساني)، رغم ذلك كله فإن الغالب على أداء النخب السياسية في تونس هو التأخر عن مقتضيات اللحظة وأولوياتها. وهو وضع يجعلنا نعتبر الحديث عن "وباء سياسي" متحالف موضوعيا مع الجائحة الكورونية أبعد ما يكون عن المجاز.

في ظرف حرج يحتاج إلى يقظة شاملة (من أجهزة الدولة ومن المجتمع المدني ومن كل المواطنين الذين جعلتهم مواقع التواصل الاجتماعي "إعلاما بديلا" يُواجه الإعلام التقليدي الذي لم يتخلص بعدُ من المال المشبوه ومن تعليمات الدولة ومراكز القوى)، أطلّت علينا مجموعة من النواب بمشروع قانون لـ"أخلقة الحياة السياسية والاجتماعية" بقيادة النائب المثير للجدل مبروك كورشيد. وهو مشروع وأده "الإعلام المواطني" في ليلة واحدة، بحكم ما يتخفى وراء"الأخلقة" من مصالح ولوبيات تريد "إرعاب" المواطنين بدعوى التصدي للشائعات والأخبار المغرضة واستراتيجيات تدليس إرادة الناخبين خلال الحملات الانتخابية.

إن خطورة المشروع الذي أطلق عليه المواطنون هاشتاغ #_كورشيد_404 ( تذكيرا بتحكم المخلوع بالإنترنت عبر الحجب وبَولسة الفضاء الافتراضي)، لا تكمن فقط في طابعه "الاستعجالي". فرغم أنّ النائب كورشيد قد اضطرّ مرغبا على سحب مشروعه الفضيحة بعد أن تبرّأ منه الكثير من النواب الممضين عليه، فإن ذلك المشروع يعكس توافقا سلطويا يكسر منطق السلطة/ المعارضة ومنطق العائلات الأيديولوجية المتصارعة وغير القابلة للتوحّد، كما أنه يجعلنا نقف أمام الأولويات الحقيقية لأغلب النخب السياسية بعيدا عن ادعاءاتها الحقوقية والإصلاحية.

في الوقت الذي انتظر فيه المواطنون مشاريع قوانين تضرب شبكات الفساد والاحتكار وتحرر الدولة من منطق الزبونية والمحسوبية والجهوية، وقفوا على أن الأولوية المطلقة لنوّابهم في البرلمان هي تكميم الأفواه ومحاولة التخلص من "الإعلام المواطني" الذي يُفترض فيه أن يكون أكبر حليف لأي مشروع إصلاحي حقيقي. وقد يكون من المفارقة أن الحزب "الكبير" الوحيد الذي لم يُمض أي نائب من نوابه على المشروع سيئ الذكر هو "الحزب الدستوري الحر" (الحزب الشوفيني الرافض للاعتراف بالثورة واستحقاقاتها).

وقد يذهب البعض لحلّ هذا المفارقة إلى الاحتجاج بأنّ هذا الحزب هو أكبر مستفيد من الإشاعات ومن التلاعب بالرأي العام خلال فترة الانتخابات، ولذلك فإنه سيعارض منطقيا هذا المشروع. وهو حلّ ذو قدرة تفسيرية محدودة إذا ما تذكّرنا أنّ هذا المشروع لا يشمل وسائل الإعلام التقليدية ولا يُعدّل شيئا من قانون الصحافة، وإذا ما انتبهنا أيضا إلى أنّ الكثيرين ممن أمضوا على المشروع كانوا من المستفيدين من الإشاعات ومن التلاعب بالرأي العام (وأولهم النائب مبروك كورشيد)، وهو ما يجعلنا نميل إلى أن حل تلك المفارقة يكمن في أن وريث التجمع المنحل والمدافع الأبرز عن منطق المنظومة القديمة ومصالحها؛ لم يكن محتاجا ليظهر في الصورة بعد أن تكفّل "وكلاؤه" وحلفاؤه الموضوعيون بالمهمة. وهو يضمن بذلك تحقيق مكسب سياسي مهم بالظهور في مظهر الرافض للمسّ بالحريات والحقوق الأساسية، على عكس الكثير من المنتمين للائتلاف الحكومي والمصرّين"خطابيا" لا واقعيا على تمثيل الثورة ومأسسة استحقاقاتها.

قد يكون من المبالغة أن نتحدث عن "وباء سياسي" بمجرد الإحالة إلى مشروع قانون أجهضه "الإعلام المواطني" قبل أن يولد. ولكننا نعتبر أن صفة "الوبائية" في العقل السياسي التونسي تتجاوز ذلك المشروع؛ لأنها تظهر أيضا في القرارات الحكومية وفي العلاقة بين الرئاسات الثلاث التي أثارتها مسألة التفويض. فلا شك في أنّ إلزام الحكومة للمواطنين بالحجر الصحي هو قرار عقلاني، ولكن أن تترك الحكومة الفئات الهشة لتواجه مصيرها المحتوم بفتات من المساعدات الاجتماعية التي لا تفي بالحاجة، وعجزها عن إجبار رؤوس الأموال على المساهمة الحقيقية في الكلفة الاقتصادية للوباء، هو أمر أبعد ما يكون عن العدل والإنصاف. كما أنّ محاولة التضييق على العمل الجمعياتي والتطوعي لمواجهة كورونا (بدعوى حماية المواطنين وتجنب التسييس) هو قرار يحتاج إلى مراجعة، بحكم عجز الدولة وأجهزتها الرسمية عن التدخل الناجع في كل مكان يستدعي التدخل.

أما مسألة تفويض رئيس الحكومة للعمل بالمراسيم فإنها قد أظهرت انعدام الثقة بين مكوّنات الائتلاف الحكومي ذاته، كما أظهرت رغبة النخبة السياسية الحاكمة على إدارة خلافاتها وتناقضاتها بعيدا عن الرأي العام. فلا رئيس الحكومة وضّح للشعب ما ينوي اتخاذه من تدابير تحتاج إلى تفويض يكاد يكون مطلقا، ولا مجلس النواب أظهر فهمه لمعنى التفويض والأسباب التي تجعله مصرا على مراقبة مراسيم الحكومة قبليا عبر خلية أزمة برلمانية لا وجود لها في الدستور.

ويبقى الرئيس قيس سعيّد لغزا من ألغاز الطبقة السياسية رغم شعبيته ووطنيته اللتين لا يمكن التشكيك فيهما. فبحكم رئاسته لمجلس الأمن القومي يُصرّ رئيس الجمهورية على أن يكون الفاعل الأساسي في استراتيجيات محاربة كورونا التي أصبحت قضية أمن قومي، ولكنه في الآن نفسه يتعامل مع الحكومة ومجلس النواب بمنطق المعارضة، بل بمنطق "برزخي" لا يتحمل مسؤولية الحكم (بإعلان التضامن اللامشروط مع "حكومة الرئيس")، ولا مسؤولية المعارضة باقتراح مشاريع قوانين "إصلاحية" تُحرج الحكومة والكتل البرلمانية وتضعهم جميعا أمام مسؤوليتهم التاريخية.

ختاما، فإن وباء كورونا قد أكّد للتونسيين أن المنتمين إلى الطبقة السياسية هم أكثر النخب "تفاؤلا"، ولكنه تفاؤل لا يرتبط بقدرة هؤلاء على إدارة الأزمة والخروج منها بأقل كلفة ممكنة بشريا واقتصاديا، بل بقدرتهم على الاستمرار في الحكم بعدها بأقل كلفة سياسية ممكنة. فالأغلب الأعم من هؤلاء يتعاملون مع وباء كورونا وكأنهم سينجون منه لا محالة، كما سينجو منه المتحكمون الحقيقيون في السلطة من اللوبيات المالية والجهوية والنقابية والإعلامية. ولذلك فإنهم لا يعتبرون وباء كورونا فرصة لتغيير منطق السلطة ذاته والقيام بعملية إصلاح حقيقية لكل القطاعات وأولها العمل السياسي، بل يعتبرونه فرصة لتصفية حساباتهم الحزبية والأيديولوجية، ولمزيد التحكم في الرأي العام وقمعه، وما مشروع كورشيد_404 منا ببعيد.
0
التعليقات (0)