أفكَار

ما بعد كورونا أخطر من الجائحة ذاتها.. الجزائر نموذجا

الباحث الجزائري جمال ضو: سياسات العزل التام سيدفع العالم ثمنها غاليا  (واج)
الباحث الجزائري جمال ضو: سياسات العزل التام سيدفع العالم ثمنها غاليا (واج)

لم يتمكن العالم حتى الآن من الوصول إلى لقاح فعال يمكنه من وضع حد لانتشار فيروس كورونا، الذي قالت منظمة الصحة العالمية بأنه تحول إلى جائحة تهدد مصير العالم كله. وعلى الرغم من تضاعف أعداد المصابين والقتلى بهذا الفيروس، فإن أعين العالم كله مركزة اليوم صوب سبل تطويق هذا الفيروس وحماية أرواح الناس منه. 

 

لكن التأمل في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم الناجم عن سبل مواجهة فيروس كورونا، وأهمها اليوم التركيز على العزل الصحي، حيث تحولت العواصم الكبرى في العالم إلى مجموعة من الشوارع الخالية، التي لا يرتادها إلا رجال الأمن أو رجال الإنقاذ من الطواقم الصحية، أو من اضطرتهم تحديات الوجود الإنساني للخروج لغرض معلوم، بدأ يتحسس ضخامة الثمن الاقتصادي والاجتماعي بل وحتى التحول الثقافي والفكري الذي يمكن أن ينجم عن هذه السياسات.

 

في هذه الورقة، يسعى الكاتب والباحث الجزائري جمال ضو في هذه الورقة الخاصة بـ "عربي21"، أن يناقش المخاوف المترتبة عن السياسات الدولية المتبعة اليوم في مواجهة وباء :ورونا" متخذا من الجزائر نموذجا لذلك.

 

 

سياسات لها ثمن

 
لقد عرفت البشرية جائحات عديدة سجلها التاريخ، من الوباء الأنطوني (165 ميلادي) إلى جائحة جيستنيان (541 ـ 543 م) إلى الطاعون الأسود أو الجائحة الاكبر (1348م)، والتي أتت على ثلث البشرية تقريبا، وأخيرا الأنفلونزا الإسبانية (1918 ـ 1920) والتي قضى فيها ما لا يقل عن 70 مليون إنسان. ويجمع أغلب المؤرخين ودارسي الحضارات والتحولات التاريخية أن الجائحات هذه شكلت بداية منعطفات تاريخية، غيرت مسارات التاريخ وأعادت رسم الخرائط الجيوسياسية.

لست هنا بصدد تقديم توقعات للتبعات الجيوسياسية لما يسمى بجائحة كورونا ـ 19، ولكن بصدد تقديم آراء بخصوص تبعات الإجراءات القاسية جدا، والتي أجمعت عليها أغلب دوائر صنع القرار الدولية لمحاصرة هذه الجائحة، على الشعوب وعلى الأرواح بالخصوص، وهذا بالاعتماد على آراء خبراء وعلماء من أهل الاختصاص ممن لا يشك في كفاءتهم وابتعادهم عن اللوبيات العالمية وصانعي الأزمات والمستثمرين فيها، ونظرا لمواقفهم الصائبة من أزمات سابقة.

هذه القرارات والإجراءات يتم استنساخها في أغلب الدول، وحتى الدول التي تمنعت واختارت مقاربة مختلفة يتم الضغط عليها إعلاميا لضمها إلى نفس المقاربة، مثل السويد، ربما حتى لا تكون نموذجا قد يكشف يوما ما أنه كانت أمام البشرية مقاربة أنجع.

شهران أو ثلاثة اليوم مرت على بداية تفشي الوباء في يوباي بأوهان ومن بعدها منطقة لومبارديا في إيطاليا. هاتان المنطقتان اللتان كانتا الأكثر تأثرا ومعاناة من هذا الوباء. ولهذا فهما تعتبران نموذجان يحددان مدى شراسة وخطورة هذا الفيروس في أسوأ الأحوال (بالإضافة إلى عينة رحلة السفينة ديامون برانساس وهي أسوأ سيناريو ممكن ربما بحسب رأي عدد من الخبراء). 

الشاهد وبإجماع جميع العلماء وأهل الاختصاص أن خطورة هذا الفيروس تكمن في خاصيتين، سرعة عدوته وطول فترة حضانته وخطورته بدرجة قاتلة على كبار السن، خاصة ممن يعانون من أمراض تنفسية وأمراض القلب. وهذا هو السبب الرئيس وراء ارتفاع عدد الوفيات في منطقة لامبارديا بايطاليا مثلا. فكل الأرقام عن معدل عمر الوفيات والتقارير الصحية واضحة بهذا الصدد، بل أكثر من ذلك  وبحسب تقرير وتقديرات منظمة الصحة العالمية فإنه ومن دون هذا الفيروس، أدى التلوث الجوي إلى أكثر من 8000 حالة وفاة إضافية سنويًا في عام 2006 في 13 مدينة كبرى في إيطاليا وحدها (المرجع 1). ونفس ظاهرة التلوث والمشاكل التنفسية تعاني منها تقريبا إيران ومنطقة يوباي. 

أما خلاف ذلك فإن أغلب من يصابون بالفيروس لا تتطور حالتهم، ونسبة كبيرة منهم لا تظهر عليهم أي أعراض ويتفاعلون مع الفيروس بشكل عادي ( المرجع 2).

إن ارقام عدد الإصابات في العالم وعدد الوفيات بسبب فيروس كورونا المستجد يتم عرضها إعلاميا بطريقة هيليودية درامية، وليس بطريقة علمية، وهو ما صنع حالة من الرعب مبالغا فيها.

صحيح لا يجب إنكار خطورة الفيروس، خاصة على الذين هم أقل حصانة وممن يعانون من أمراض تنفسية، ولكن لا يجب في الوقت نفسه أن تقع البشرية ضحية لسوء تقدير يحذر منه كثير من الخبراء والعلماء. وما قصة أنفلونزا الخنازير وسارس 1 عنا ببعيد. بل وما قصة جنون البقر عنا ببعيد، والتي أدت إلى اتخاذ الحكومة البريطانية لقرار بإعدام ملايين البقر والمواشي السليمة وكلفت الخزينة البريطانية 10 ملايير جنيه، بناءً على توقعات فريق  من الباحثين، ليتبين فيما بعد بحسب دراسة علمية رصينة أن تلك الدراسة أسست على فرضيات ونمذجة معيبة. والمفارقة أن رئيس الفريق العلمي الذي كان وراء اتخاذ حكومة بلير لقرار إعدام ملايين المواشي هو نفسه من أصدر التقرير والتوقعات التي دفعت حكومة جونسون باعتماد مقاربة الغلق الشامل. 

 

إن ارقام عدد الإصابات في العالم وعدد الوفيات بسبب فيروس كورونا المستجد يتم عرضها إعلاميا بطريقة هيليودية درامية، وليس بطريقة علمية، وهو ما صنع حالة من الرعب مبالغا فيها.

 



ولهذا وقبل أن تتجه البشرية نحو الاستمرار في الإجراءات الحالية، والتي تقوم على الحجر الصحي الشامل والغلق التام لأغلب بلدان العالم من دون أجل واضح لحد الآن، وجب أولا موازنة هذه الجائحة والأرقام التي تصدر في مقابل تبعات قرارات. 

دعنا نذكر القارئ بالحقائق التالية: يوميا يموت بسبب الجوع حوالي 18000 إنسان في العالم، ومات لحد الآن أزيد من 199.000 بسبب الأنفلونزا الموسمية، وأزيد من 600.000 بسبب الكحول، أزيد من 410.000 بسبب الإيدز وأزيد من 330.000 قتلوا في حوادث الطرق من بداية السنة عالميا.

هذه الأرقام تجعل من أعداد الوفيات بسبب كورونا المستجد غير مؤثرة على المعدل العام، حتى لو تضاعفت. ما صنع الفرق هو الطريقة الإعلامية التي يتم بها تناول الأرقام. فالقصة تشبه إلى حد ما تأثر المتفرج على فيلم أمريكي حربي؛ فخلال الفيلم يموت الآلاف من الناس في القصف والمعارك ولكنه عمليا لا يتأثر إلا بوفاة بطل الفيلم أو من يركز عليهم كاتب السيناريو، بل في أحيان كثيرة يتعاطف المشاهد مع المجرم ويتأثر بوفاته. وما على القارئ إلا أن يتصور أن الأرقام التي ذكرناها سابقا بخصوص أعداد الوفيات بسبب الأنفلونزا والكحول وحوادث الطرق يتم عرضها إعلاميا على مدار الساعة ومتابعتها، كيف سيكون شعوره؟ يوجد موقع إلكتروني يرصد على مدار الساعة عدد الوفيات بسبب الفقر، والرقم يشير في اللحظة التي نكتب فيها هذا المقال إلى 2.255.007  نفس منذ بداية هذه السنة!.

وهنا تجدر الإشارة أيضا إلى التقرير الصادم الذي صدر هذا الأسبوع  عن EuroMOMO  والذي يرصد معدل الوفيات الأسبوعي في أوروبا، 24 دولة، حيث تبين أن معدل الوفيات الاسبوع الماضي أقل من المعدل الأسبوعي العادي في جميع الفئات العمرية (المرجع 3).

لا نختلف أن كل نفس غالية وفقدانها هو مأساة، فمن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا، ومن خلال هذا المنطلق يجب مقاربة جائحة كورونا والإجراءات المصاحبة لها. إنها مقاربة حفظ النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وحفظ المال والعرض، إنها المقاصد الرئيسة للشريعة الإسلامية وللشرائع الوضعية في الحقيقة، أو على الاقل بحسب ما هو معلن.

 

المقاربة الجزائرية لمواجهة كورونا تجاهلت التبعات


الآن، وفي الجزائر اختارت الحكومة قرار الحجر الكلي على ولاية البليدة والجزئي أو شبه الكلي على عدد من الولايات بل كل الولايات تقريبا من أجل محاصرة انتشار الفيروس. ولا ندري إلى متى. حتما لن ترفع هذه الاجراءات في غضون أسبوع أو أسبوعين، بل هناك بحسب ما يتسرب توصيات بتعميم الحجر الكلي على كل الولايات وإلى اجل غير مسمى. 

 



هذه الإجراءات التي اعتمدتها الجزائر تأتي استنساخا لما قامت به كثير من الدول، بل أغلب الدول. بعبارة أخرى نحن أمام مقاربة عالمية واحدة، مع استثناءات. بعض الاستثناءات مهمة وتستحق الدراسة. طبعا كثير من الدول الأفريقية الفقيرة وحتى غير الفقيرة لا يبدو أنها معنية بهذه الجائحة ولا الإجراءات.
ولكن دعنا نحاكم تبعات هذه الإجراءات في الجزائر أولا، محاكمة في ظل قاعدة حفظ النفس والمال. لأنه لا يمكن كسر هذه الثنائية، بل لا يمكن فصلهما عن حفظ العرض. ثم بعدها نتناول التبعات العالمية على البشر وعلينا هنا. 

في أغلب المدن والولايات الجزائرية هناك توقف تام لعصب الحياة التجاري والاقتصادي والإداري. والاستثناء هو التزود بالمواد الغذائية والأدوية والوقود والخدمات الإدارية الضرورية. الآن السؤال الملح والذي يجب طرحه:

إلى متى ستستمر هذه الإجراءات؟ ومتى سيتم رفعها والعودة بالحياة إلى طبيعتها؟

لا يبدو أن أصحاب القرار في الجزائر لديهم إجابة، لأن هذه الإجابة مفقودة حتى لدى ساسة الدول الكبرى وصانعي السياسات العالمية. ولكن هناك حقائق يجب أن نتذكرها جميعا من واقعنا.

أولا، كثير من الجزائريين ممن يتلقون رواتبهم من الدولة (موظفي القطاع العام) والأثرياء وميسوري الحال، قد تبدو لهم هذه الإجراءات عادية ولن يشعروا بآثارها ـ على الأقل في الأمد القريب كما سنرى ـ  بل قد يرى فيها البعض مغنما ـ أجور من دون عمل ـ ولكن يجب أن نتذكر أن نسبة كبيرة من الجزائريين تسببت هذه الإجراءات في قطع مصادر رزقهم تماما. فكل أشكال البيع والتجارة متوقفة الآن، كل ورشات إصلاح السيارات والتجارة والنقل وغيرها من النشاطات اليومية توقفت بشكل تام. 

فهل سأل صاحب القرار الجزائري والمواطن الجزائري الذي لا يزال يتلقى راتبه الشهري عن مصير ملايين الجزائريين من هؤلاء؟ كيف سيتدبرون قوت يومهم؟

صحيح نحن شعب فيه من روح التكافل والتعاون والشهامة ما لا يمكن لإنسان أن يتصوره ربما، مهما كانت مساوئنا، وما يحدث من مبادرات تكافل وتضامن اليوم شاهد على ذلك. لكن إذا طال الأمر فإن التكافل والتعاون لن يكونا كافيين لضمان الاستقرار الاجتماعي، فهذا سيفوق قدرات أي شعب. بل إنه في مرحلة ما سيفكر كل فرد في إنقاذ اسرته، وهذه طبيعة النفس البشرية وقدرات تحملها، وقد ينفلت الوضع وينفجر المجتمع تحت طائلة الحاجة وانقطاع مصادر الرزق، وحينها تصبح عملية الحجر الصحي من الماضي وتصبح قضية انتقال الفيروس والعدوى مسألة ثانوية ومن لم يصب اليوم سيصاب غدا وفي ظل ظروف اجتماعية واقتصادية ورعاية صحية أسوأ بكثير. 

ولا ننسى أن كثيرا من مشاهد تدافع الناس اليوم من أجل اقتناء كيس دقيق يجعل من مفهوم الحجر الصحي وهذه الإجراءات أشبه بمن يحاول جمع الماء في داخل إناء مثقوب.

ما يجب أن نعرفه أن الوضع الحالي سيتسبب في كسر سلسلة إنتاج الغذاء في الجزائر. لأن شبكة إنتاج الغذاء ليست معزولة عن النشاط الفلاحي والنقل وورشات إصلاح السيارات ومحلات بيع قطع الغيار والحدادة والنجارة وتجار البذور والأسمدة وبل حتى المشتري الذي يوفر السيولة...... فالكل مترابط. فقط انتقال الأثر من حلقة إلى أخرى في السسلة يتطلب زمنا، وكلما طال أمد الإجراءات الحالية ستتأثر حلقات أكثر إلى أن تنهار السلسلة كلها. وكلما قصر أمد الإجراءات كلما كانت التبعات محدودة وقابلة للاستيعاب اجتماعيا واقتصاديا وماليا. 
 
أشير هنا إلى أن منظمة الغذاء العالي (فاو) حذرت يوم 30 آذار (مارس) الماضي من أزمة غذاء عالمية بسبب هذه الإجراءات المتخذة وفيروس كورونا ما لم تتخذ إجراءات سريعة للحفاظ على سلاسل إمدادات الغذاء العالمية.

 

مغالطة يجب الانتباه إليها

يعتقد كثيرون أن من يرفض هذه الإجراءات القاسية (غلق تام وحجر صحي شامل) إنما يفكر بمنطق اقتصادي على حساب ارواح الناس، "اقتصاد مقابل أنفس". وهذه مغالطة كبيرة يتم ترديدها كثيرا، ويتم اتهام الرافضين بأنهم من متبني نظرية مناعة القطيع التي لا تأبه بأرواح كبار السن. لكن الحقيقة المسألة هنا هي "عدد من الأرواح مقابل عدد أكبر من الأرواح". فالنتيجة الطبيعة لهذه الإجراءات إذا طال أمدها وتخطت عتبة زمنية ما سيكون على الأرجح إزهاق أرواح وتفشي أوبئة صحية واجتماعية ستكون عواقبها وخيمة على الإنسان، ولن يكون حينها من الممكن أصلا الحديث عن حماية البعض أو الكثير من فيروس كورونا، لأن المنظومة الصحية نفسها ستكون أضعف مما هي عليه اليوم. 

وهذا يدفعنا إلى الحديث عن تبعات هذه الإجراءات على المستوى العالمي. 

في الحقيقة بحسب آراء كثير من الخبراء والمختصين العالميين فإن الإجراءات المتخذة عالميا أشبه بمحاولة الانتحار الجماعي والتدمير الذاتي، فآثارها المرعبة على الاقتصاد العالمي تهدد وجود عدد لا حصر له من البشر (المرجع 4). وربما ما يحدث في الهند هذه الأيام بعد اتخاذ إجراءات منع التجول والحظر من تقطع السبل بمئات الآلاف من المهاجرين الداخليين مجرد عينة أولية لفظاعة نتائج الإجراءات غير المحسوبة على أرواح مئات الآلاف من الأصحاء والمعافيين والذين تعتمد حياتهم على نمط حياة آخر غير ذلك السائد في الدول الغنية، فهل هذه الأنفس بلا قيمة؟

لا يختلف إثنان أن تبعات إجراءات الحجر التام والغلق العالمي ستكون لها آثار وتبعات كبيرة اقتصادية خطيرة إذا ما طالت، بل كثير من هذه التبعات أصبحت واقعا اليوم ـ خسارة ملايين الوظائف وبعضها إلى الأبد، إفلاس شركات وتسريح عمالها وكل ما سيترتب عنها من آفات اجتماعية ـ، والأخطر هو ما يمكن أن يتهدد العالم من أزمة غذاء قد تسبب مجاعات تأتي على ملايين البشر، وستصبح أرقام الوفيات بكورونا مجرد أرقام لا نقف عندها أصلا، وما تقرير منظمة الغذاء العالمي إلا ناقوس خطر أولي. وأخطر التبعات ستشهدها الدول التي تعتمد في غذائها وصناعتها على الخارج، فهي لن تتعافي بسهولة،  وكثير من الدول ستصبح أوليويتها إطعام شعوبها والتفكير في ماهو قادم، مما يجعلنا كشعب جزائري تحت رحمة تقلبات عالمية كبرى، لم نستعد لها ولا يبدو أن صناع القرار يفكرون فيها اليوم وليس غدا.

أخشى أننا أمام صناعة جائحة كبرى من جائحة صغيرة (على الأقل ليست خطيرة)، أو بعبارة أخرى علاج مرض خفيف والتسبب في مرض قاتل، فالعلاج يبدو أخطر من المرض نفسه. وربما نحن أمام استنساخ سيناريو معاكس لجائحة الأنفلونزا الإسبانية. فتلك الجائحة جاءت بعد حرب عالمية أزهق فيها أزيد من 15 مليون نفس، عدا ضعف هذا الرقم من المصابين، ولكن من تبعات هذه الحرب موت أزيد من خمسين مليون إنسان بسبب الأنفلونزا الإسبانية. 

واليوم نحن أمام جائحة قد تتسبب في وفاة عشرات الآلاف على أكثر تقدير (ولنقل مئة ألف أو أكثر)،  ولكن المقاربة العالمية للأزمة قد تؤدي إلى إزهاق ملايين الأرواح. وفي الحقيقة لن تكون هذه الأرواح مهمة، لأنها في حسابات صانعي السياسات والمستثمرين في الأزمات ليست بالأرقام المهمة ويمكن تبريرها بل وإخفاؤها واستيعابها ولن يتم تسليط الضوء الاعلامي عليها كثيرا، مثلما لا يتم تسليط الضوء اليوم على عشرات الألاف من البشر الذين يموتون يوميا بسبب الجوع المترتب عن أزمات وصراعات كثيرا ما تصنعها وترعاها المؤسسات والشركات التي تدعي اليوم أنها تريد حماية البشرية من هذه الجائحة. 

 

أخشى أننا أمام صناعة جائحة كبرى من جائحة صغيرة (على الأقل ليست خطيرة)، أو بعبارة أخرى علاج مرض خفيف والتسبب في مرض قاتل، فالعلاج يبدو أخطر من المرض نفسه.

 


أخيرا، قد يسأل سائل عن ماهية البديل. فهل يعقل أن نترك عشرات الآلاف يموتون من دون اتخاذ إجراءات لسلامتهم وإنقاذ أرواح من يمكن إنقاذهم؟ وهنا أحيل القارئ إلى ما قاله البروفسير Michael T.Osterholm  مدير معهد الأبحاث في الأمراض المعدية والسياسات في جامعة مينيسوتا، حيث يقول في مقالة له نشرها على صفحات الواشنطن بوست يوم 21 مارس بعنوان " "مواجهة حقيقة كوفيد ـ 19: الغلق الوطني التام ليس علاجا".

"البديل الأفضل من المحتمل أن يتضمن ترك من هم غير مهددين جديا يعملون، ترك الأعمال والصناعة تعمل، و"تسيير" المجتمع، بينما  ينصح الأفراد المهددين صحيا بحماية  أنفسهم بالتباعد الجسدي وتكثيف سعة قدرتنا على الرعاية الصحية  بكل ما نستطيع. بخطة الحرب هذه، يمكن أن نولد تدريجيا مناعة من دون أن ندمر البنية المالية التي تقوم عليها حياتنا".

ولهذا فإننا هنا في الجزائر ومن أجل حماية الأنفس عبر حماية مصادر رزقها وعدم التسبب في كسر سلسة الغذاء والفلاحة المترابطة والتسبب في آفات قد تكون نتائجها وخيمة ويصعب التحكم فيها، الحل الأمثل هو في الحجر الصحي الذكي أو التفاضلي. أي توجيه وإلزام المواطنين باتباع حماية أقاربهم من كبار السن ومن يعانون من أمراض مزمنة، تجعلهم مهددين بهذا الفيروس جديا في حالة إصابتهم، وعزلهم صحيا ومنعهم من حضور أي تجمعات أو صلوات جماعية، وكذا منح عطل لمدة شهر أو حتى شهرين للموظفين الذين يعانون من أمراض مزمنة إلى حين انحصار الوباء. وفي نفس الوقت العمل الجاد بكل إمكانيات الدولة على الاستعداد الصحي الشامل من تجهيز لمستشفيات مؤقتة حتى لا تنصب كل الرعاية الصحية في اتجاه واحد وتهمل بقية الحالات المرضية الأخرى ونجد أنفسنا نزهق أرواحا أخرى يمكن انقاذها.

أخيرا، لم نتعرض إلى الشق السياسي لهذه الإجراءات، ولكن المؤكد أن كثيرا من الأنظمة وبما فيها النظام الجزائري وجدوا فرصة في هذه الإجراءات الاستثنائية التي سهلت التحكم في المجتمع وضبط إيقاعه تحت شعار جديد "الوقاية الصحية" وفزاعة الكورونا، بدل فزاعة الإرهاب، التي لا صوت يعلو فوق صوتها، وهو ما قلب مؤقتا معادلة الشارع في الجزائر والعلاقة بين المواطن والسلطة التي فرضها حراك 22 شباط (فبراير) رأسا على عقب. 

كما أن ما يحدث عالميا يعتبر إرهاصات لمحاولات تغيير طريقة إدارة المواطن والإنسان عبر إعادة تهيئة وترتيب للمنظومة العالمية، ولكن من الصعب التنبؤ بالمآلات، وستبقى كل السيناريوهات مفتوحة،  سيناريوهات وجد كثير من الخبراء أنفسهم يختلفون بشأنها.

المراجع:

[1] Martuzzi et al. Health Impact of PM10 and Ozone in 13 Italian Cities. World Health Organization Regional Office for Europe. WHOLIS number E88700 2006.
[2]Yanis Roussel et al .“SARS-CoV-2:fear versus data”, International Journal of Antimicrobial Agents”,19 March 2020.
[3]: https://euromomo.eu/

التعليقات (10)
عبد القادر
الأحد، 02-08-2020 04:54 ص
الله رحيم
عدنان السيد
الثلاثاء، 21-04-2020 07:23 م
خير الكلام ماقل ودل .......موكاتب قصة الف ليلى وليلى
عائشة
الأحد، 12-04-2020 05:43 م
المقال عميق التحليل وثاقب الرؤية ،الاّ أنّه في اعتقادي انّ في الجزائر تحديدا الامر مختلف ،ذلك أنّ إدراة الأزمة تجد ضبابية لدى صناع القرار أنفسهم ،فهم يتخبطون في قرارات عشوائية دون سابق تخطيط أو تفكير وهذا ليس بالجديد ،المعظلة الحقيقية كيف ستتعامل الجزائر مع أزمة مابعد الكورونا وهل ستحتوي تبعاتها المتفاقمة إلى جانب مايوجد من مشاكل اجتماعية واقنصادية سابقة .بوركت استاذ على هذا المقال تحياتي
الVIGILANTE
السبت، 04-04-2020 06:42 م
أشكر الكاتب على جهده وصبره وتأنيه في كتابة هذا المقال. كنت أتمنى لو انه تطرق لنقطة قدوم رعايانا من الخارج (أوروبا بالتحديد) والمراقبة الغير جدية لمن يدخل البلاد حاملا للفيروس والتي تسببت بدورها في أغلب حالات العدوى التي لازلنا نرا نتائجها حتى الان في الوفيات.
أحمد أحمد
الخميس، 02-04-2020 09:31 م
لعل بعض من سيقرأ المقال لن يستوعب جيدا ما ورد فيه و الدليل أن بعض من علق قرأه فقط من جانب واحد لا يؤخر و لا يقدم في محتوى المقال الذي له نظرة إستشرافية لإحتمالية ما يمكن أن تؤول إليه أوضاع بعض الدول و من بينها الجزائر مع التطبيق الحرفي الصارم و الشامل للحجر الصحي و لعل هذه الإجراءات و ما يمكن أن تسببه من مشاكل نابع من عدم وجود سابق تجربة لحكومتنا لمثل هكذا وضعية شكرا للأستاذ