كتب

عن الثورة التونسية وشروط قيام الدولة المدنية عربيا

كتاب يعالج مرحلة ما بعد الربيع العربي وحلم الدولة المدنية في العالم العربي  (أنترنت)
كتاب يعالج مرحلة ما بعد الربيع العربي وحلم الدولة المدنية في العالم العربي (أنترنت)

الكتاب: "الدولة المدنية.. التصور والواقع والممكن "
الكاتب: مؤلف جماعي لعدد من الباحثين.
الناشر: المعهد العربي للديمقراطية بتونس، وبدعم من مؤسسة هانس سايدل الألمانية
الطبعة الأولى 2020  ـ (151 صفحة من الحجم الوسط).

منذ دخول "ربيع الثورات العربية" عامه الثاني، مجسداً بذلك خياراً جديداً، هو خيار ثورة الحرية والكرامة والقانون، الذي يمكن أن يتحول إلى مثال ونموذج يَعُم ُالعالم العربي، ويضع حدّاً نهائياً للدولة التسلطية العربية، بدأ يتداول في الخطاب الفكري والثقافي والسياسي العربي، مفهوم الدولة المدنية.

 

ربيع الثورات العربية وسؤال الدولة المدنية

وفي تونس ولد ربيع الثورات العربية هذا، ومنها أصبح يؤسس لتاريخ طريق بناء الدولة المدنية بوصفها مهمة صعبة وشائكة في العالم العربي، الذي يفتقر للخبرة والثقافة الديمقراطيتين.. وبما أنّ حركات الإسلام السياسي هي التي فازت في أول انتخابات ديمقراطية جرت في أكثر من بلد عربي، فقد برز اتجاهان يقدمان اجتهادات بشأن مقولة الدولة المدنية.

الأول يرى أن إقامة هذه الدولة ممكنة، إذ باستثناء النص على قيمة "الشورى"، فلا توجد نصوص أخرى في المرجعية الإسلامية تتناول الأمور السياسية. وإزاء صمت الفقه الإسلامي التقليدي عن معالجة نظم الدولة، فإنَّ الباب ظل مفتوحًا لإقامة دولة إسلامية ليبرالية يختار فيها المواطنون مؤسساتهم السياسية كما يريدون، دونما حاجة للجوء إلى فصل الدين عن الدولة.

أما النوع الثاني من الليبرالية الإسلامية، فإنَّه يذهب في تبريره تأسيس مؤسسات سياسية ليبرالية (كالبرلمان والانتخابات والحقوق المدنية) بل وحتى بعض سياسات الرعاية الاجتماعية، على أساس أنها لا تتناقض مع أي نصوص دينية، بل إنها يمكن أن تعد تطبيقاً لبعض المبادئ الإسلامية المنصوص عليها في بعض النصوص القرآنية، والتي يمكن استخلاصها أيضاً من سِيَر الخلفاء الراشدين.

ولعل هذه الاتجاهات المتنوعة في مجال الليبرالية الإسلامية هي التي جعلت بعض الباحثين المتخصصين في العالم العربي والإسلامي أكثر تفاؤلاً بإقامة هذه الدولة المدنية. غير أنَّ حركات  الإسلام السياسي في تحولاتها المعاصرة أثارت الخوف في داخل المجتمع التونسي خلال تجربة حكم الترويكا، بعدما اتجه أنصار الإسلام السياسي إلى تغيير نموذج المجتمع التونسي الليبرالي والمنفتح، وفق اجتهاداتهم المتنوعة.

لكنَّ تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس مثلت تجربة في بناء "الدولة المدنية" باعتبارها حلاً توافقيًا فريدًا من نوعه في المنطقة العربية، إِذْ شكلت قاعدة صلبة للعمل المشترك بين التيارين الإسلامي والعلماني، الذي عطل صراعهما طيلة ما يقارب القرنين من الزمان، أي إمكانية لإقامة أنظمة ديمقراطية تحترم الحريات وحقوق الإنسان، كما منع أي فرصة لتعبئة قوى الأمة العربية ومواردها لإطلاق مشروع حضاري يعيد العرب إلى سالف مساهمتهم العلمية والحضارية في تاريخ الإنسانية.

في هذا الكتاب الجديد، الذي يضم بين دفتيه مجموعة من الأوراق البحثية، التي تقدم بها عدد من المفكرين والباحثين الأكاديميين والنشطاء السياسيين، شاركوا في المؤتمر الذي نظمه المعهد العربي للديمقراطية في تونس بالشراكة مع مؤسسة هانس سايدل الألمانية، وذلك خلال الفترة من 15 إلى 17 كانون الأول (ديسمبر) 2018، ويحتوي على 151 صفحة من القطع المتوسط، وصدر في شهر كانون الثاني (يناير) 2020، قدم المشاركون في المؤتمر، إسهامات أثروا بها هذا المشروع الفكري والسياسي المفتوح لـ "الدولة المدنية"، سواء فيما يتصل بالتجربة التونسية النموذجية، أو غيرها من التجارب الممكنة في عدد من الدول العربية.

دولة القانون في السيرورة التاريخية

لا يزال مفهوم الدولة المدنية حديث الاستعمال في الخطاب الفكري والسياسي العربي. فمفهوم الدولة المدنية طُرِحَ في سياق ما بات يُعْرَفُ بربيع الثورات العربية، للإشارة إلى رؤية جديدة لعملية الإصلاح، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم في المجتمعات العربية، التي أسقطت الديكتاتوريات العسكرية والبوليسية، التي كانت قائمة. 

وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الدولة المدنية غير متداول في الأدبيات الغربية وليس له وجود في المعاجم والقواميس السياسية في الغرب، لذلك فإن هذا المفهوم له مضامينه الخاصة في العالم العربي حيث طرح للتعبير عن تجربة خاصة بهذه المجتمعات العربية .

فما هي مرتكزات دولة القانون في المنظور الغربي؟

في هذا السياق يقدم الدكتور زيد الدليمي الكاتب والباحث الألماني من أصل يمني، والمدير الإقليمي  لمؤسسة هانس سايدل الألمانية، في ورقته البحثية التي تحمل العنوان التالي: "الدولة المدنية على محك المقارنة بين النّسقين الفكريّين الألماني والعربي"، تعريفًا لدولة المواطن أو الدولة المدنية، فيقول: "في السياق الفلسفي الغربي، وجدت مفاهيم مجاورة لفكرة الدولة المدنية بيد أنها لم تعد ذات بال في النظريات السياسية، وعلى سبيل المثال اهتم قلة من المفكرين بنموذج "دولة المواطن"، رغم أنّ أرسطو وهو حجر الأساس في الفلسفة اليونانية القديمة قد مرّ على ذكره. 

 

لا شك في أن ميلاد الدولة ـ الأمة، أساسها، وأصلها، ومعناها، تمظهر تاريخياً في ذاته ولذاته حسب تعبير هيغل،


وإذ تتميز "دولة المواطن" عن الأوليغارشية التي تحتكر فيها نخبة ضيقة سلطة الدولة، فإنّها تختلف أيضًا عن الدولة الديمقراطية التي يشارك فيها كل المواطنين في رسم سياسة الدولة بكل حرّية، ذلك أنّ "دولة المواطن" تتبوّأ منطقة وسطى بين الأوليغارشيّة والدّيمقراطيّة: ففي هذا النموذج، تسيّر شريحة اجتماعية واسعة وهي الطبقة الوسطى الدولة لصالحها. وفي حين يغيب هذا المفهوم عن التداول اليوم، فإنّ غيرهارد بفرويدينشو يرسم في كتابه "من دولة الحزب إلى دولة المواطنين" ملامح يعلي من كلمة المواطنين داخل مجال الدولة لا بمعنى التمثيلية فحسب وإنّما أيضا بمعنى المشاركة المباشرة.

وعلى هذا النحو فإنّ بفرويدينشو يضع للمرّة الأولى الرأي المباشر للمواطنين في قلب الدولة وفي جوهر العملية السياسية ضمن إطار ما يُعرف بالديمقراطية المباشرة، كما يميزها بوضوح عن بقية أشكال الحكم المعهودة إلى أيامنا هذه بما فيها الدولة الدستورية القائمة على الأحزاب الديمقراطية. ويرى بفرويدينشوأنّ الديمقراطية التمثيلية قد آلت إلى حكم نخبة سياسية مضيقة لا تختلف جوهريا عمَّا سبقها من نماذج تاريخية"(ص 24 من الكتاب).

 

مفهوم دولة القانون
 
ويركز الدكتور زيد الدليمي في ورقته البحثية على مفهوم دولة القانون التي انبثقت في سياق التحولات التاريخية الكبرى التي أصابت المجتمعات الأوروبية، منذ أن بدأ المشروع الثقافي التنويري الغربي الذي له خاصياته المتميزة يشق طريقه لجهة إخراج العقلانية من حدود الغيب والتجريد اللفظي إلى عالم المجهول المادي وإلى الطبيعة. وبذلك ولدت الدولة الحديثة بفضل الجهد التاريخي الذي قامت به الذات الأوروبية على ذاتها في مراحل الصراع التوتري الهائل بين العقل المسيحي والعقل العلمي الذي دام ثلاثة قرون، والذي تُوّج بإحداث القطيعة الكبرى ـ وهي قطيعة معرفية وقطيعة إبستمولوجية وسياسية داخل استقلالية العقل نفسه ـ مع التصور الديني للعالم والحياة الذي أصبح معوِّقاً للحداثة والتقدم وغير محتمل وغير مقبول في معارضة النظام المعرفي الجديد الذي شكلته البورجوازية كطبقة صاعدة في أوروبا.

لا شك في أن ميلاد الدولة ـ الأمة، أساسها، وأصلها، ومعناها، تمظهر تاريخياً في ذاته ولذاته حسب تعبير هيغل، حين بدأت العلاقات الرأسمالية تظهر تحت شكل الرأسمالية البضاعية، ومع اندلاع الثورة الديموقراطية البورجوازية التي عمّت الغرب بدرجات متفاوتة الحدة والقوة منذ القرن التاسع عشر وفي أواخر القرن الثامن عشر، وعلى امتداد القرن التاسع عشر. 

ولدت أشكال متنوعة عبر التاريخ من الدولة ـ الأمة، ففي إنجلترا، تشكلت الرأسمالية الصناعية من رحم الرأسمالية التجارية، وحققت البورجوازية "وفاقاً تاريخياً" مع الأرستقراطية بتحالفها مع النبلاء. غير أن التوازن النسبي للطبقات المسيطرة في مرحلة عملية التراكم البدائي لرأس المال الإنجليزي التي عرفت الكثير من العنف، لم يفسح في المجال لانبثاق دولة قوية كما هي الحال في فرنسا، بل عجّل بقدوم "دولة معتدلة" حسب تعبير مونتسكيو، وعملت هذه السلطة السياسية المخفضة على إدارة هذا الوفاق في إطار التناقض بين الديموقراطية الداخلية والاستغلال الإمبريالي.

 

إنّ تبني نموذج دولة القانون في السياق العربي، لا يبدو بالضرورة حلاًّ مثاليًّا على ضوء ما يشهده هذا النموذج من أزمات في موطنه الأول أي المجال الغربي


أما في فرنسا، فقد استولت البورجوازية على السلطة بوساطة الثورة العنيفة، وبسطت هيمنتها الطبقية على مجتمع ما زال زراعياً وتكمن المفارقة هنا في أن الهيمنة البورجوازية في فرنسا سبقت التوسع الصناعي والرأسمالية الصناعية التي عرفت انطلاقتها الفعلية تحت حكم الإمبراطورية الثانية ابتداء من عام 1850، على نقيض إنكلترا.

وهكذا، فإن المصادر النظرية للأفكار الثورية، وكذلك الممارسات المولدة للدولة الحديثة، ارتبطتا تاريخياً بحوامل موضوعية تجسدت في ذلك التفاعل العظيم بين إبداع الأفكار الثورية في الفيزياء والفلك والرياضيات وما نجم منها من تحولات علمية وصناعية كبرى، وحققت أسس رأسمالية صناعية متطورة، وبين طرح المناهج والأنساق المعرفية الجديدة في الفلسفة، التي تعتبر الإنسان ـ هذا العَلَمُ للثورة، والذي يتصور نفسه تارة كائناً طبيعياً، وتارة كائناً عقلياً ـ مركزاً للعالم، وطرحت في الوقت عينه التناقض بين مثالية القانون الطبيعي الذي بقي قاصراً منهجياً والقانون الوضعي المبني على العقلانية. 

ويعتبر الحقوقيون أن الدولة الليبرالية للرأسمالية التنافسية التي ولدت في بلدان الغرب هي الشكل النموذج لدولة الحق والقانون بوصفها من أكثر الأنظمة ديموقراطية، وتمثل في الوقت عينه مركّباً بين نظريات القانون الطبيعي أسبق منها ومبادئ حملها إليها القانون الوضعي في القرن الثامن عشر.

 

التجربة الغربية ومفهوم الدولة ـ الأمة


إن ما يتم التعبير عنه عبر دولة الحق والقانون، هو نشوء الدولة الحديثة في سياق التجربة الغربية، بدءاً من القرون الكلاسيكية التي أفرزت أشكالاً متعددة من الدولة القائمة على نظرية القانون الطبيعي، مروراً بالتحولات التي عرفتها المجتمعات الغربية منذ بداية الثورة الإنجليزية وحتى قيام الثورة الفرنسية، والتغيرات التي أدخلتها هذه الأخيرة على صعيد تجسيد القطيعة مع الأشكال السياسية للدولة الاستبدادية التي شهدت نشأة الرأسمالية المركنتيلية والتي عبّرت عن إحدى المراحل الانتقالية من الإقطاعية إلى الرأسمالية، وإرساء الدولة القومية ـ الأمة التي تعتمد على فكرة سلطة القانون المطلقة، وبناء سياسي وقانوني يتجسد في مؤسسات مدنية تعتمد العمل الأيديولوجي وأخرى عسكرية وأمنية تعتمد العنف المشروع داخل حدود جغرافية معترف بها داخلياً وخارجياً. هذا الجمع بين البناء المدني السياسي والظاهرة القانونية وبين العنف المشروع داخل حدود معينة، هو أساس مفهوم الدولة ـ الأمة.

إن مفهوم الدولة ـ الأمة يتضمن في سيرورته الطابع الكوني العام الذي يحمله إلى العالم، لأن ظهوره ترافق مع ظهور الرأسمالية الناشئة، وانتشار علاقات الإنتاج الجديدة الخاضعة للرأسمال. فالبورجوازية الصاعدة تعمل على توطيد هيمنتها، وخدمة أهدافها على أساس أنها قيم حقائق، وتحقيق الوحدة القومية للأمة المتأمثلة للسوق الاقتصادية من خلال إلغاء الحواجز الجمركية الداخلية الموروثة من الانقسامات الإقطاعية، وانتزاع السيطرة والسيادة للسلطة السياسية من الرجعية الإقطاعية والمونارشية وإقامة دولتها، التي لن تكون أتوماتيكياً نتاج سيطرتها كطبقة، بل عبر الفتوحات التي تقوم بها لفرض هيمنتها والمرتبطة بخوض الصراعات السياسية المستمرة من أجل السلطة، الأمر الذي أظهرته بأكثر ما يكفي تاريخ الثورات، وبالأخص منها تاريخ الثورة الفرنسية الكبرى.

 

يبدو أنّ النظم الغربية الدستورية القائمة قد أصبحت رهينة السوق العالمية أو ـ وفقا لمصطلحات ماركس ـ رأس المال


خلافاً لما هو شائع الاعتقاد، فقد عرف العالم دولة "القانون" عبر العصور المختلفة التي مرّت بها البشرية، منذ أيام حمورابي إلى يومنا هذا. لكن ما يميز الدولة الأوتوقراطية والديكتاتورية والتوتاليتارية في هذا المجال عن الدولة الديمقراطية هو كون القانون في الحالة الأولى جائراً، وشكلياً ولا عقلانياً، فضلاً عن انتهاكه وخرقه من السلطة عينها التي يفترض أنها تطبقه، أما في الحالة الثانية فهو يكفل للشخص الإنساني للمواطن، حقوقه الأساسية والحرية والمساواة أمام القانون، ويفسح له في المجال للدفاع عن حقوقه هذه، حتى في مواجهته الدولة التي يفترض أنها ضامنة لها.

يقول الدكتور زيد الدليمي: "إنّ تبني نموذج دولة القانون في السياق العربي، لا يبدو بالضرورة حلاًّ مثاليًّا على ضوء ما يشهده هذا النموذج من أزمات في موطنه الأول أي المجال الغربي. وعلى النحو الذي تنبأ به كارل ماركس للدولة البرجوازية في عصره، يبدو أنّ النظم الغربية الدستورية القائمة قد أصبحت رهينة السوق العالمية أو ـ وفقا لمصطلحات ماركس ـ رأس المال، إذ يبدو أنّ المستفيد الأول ـ والأوحد ربما ـ من الحرّيات الموعودة في السياق الغربي هي النخب الاقتصادية والمالية المتنفذة، كما يبدو أنّ المساهمة الأبرز للدولة في الغرب لا تتمثل في الحرية الفردية الموعودة بقدر ما تكمن في فتح المجال أمام تغول رأس المال على خلاف الحرية الفردية الموعودة...إنّ السردية القائلة بنظام رأسمالي لا يقبل التشكيك كثيرًا ما تُلازم الاعتقاد في نموذج دولة القانون الديمقراطية باعتبارها نموذجًا كونيًّا و"رزمة غربية" صالحة للعالم بأسره. 

بيد أنّ ذلكم الاعتقاد لا يزال يثير ريبة الثقافات الأخرى التي تطمح إلى تطوير نموذج في التنمية السياسية والاقتصادية يستجيب لخصوصياتها وشروط فخرها بذاتها الحضارية. وتدريجيًا تؤدي هذه السردية الغربية إلى حالة من الضجر من مقولات الديمقراطية ودولة القانون باعتبارهما تعبيرًا فضًّا عن المركزية الأوروبية وفرضية سائدة تلتقي فيها البداهة مع البلادة" (ص 34 ـ 35 من الكتاب).

التعليقات (0)