كتاب عربي 21

أصيح للخرطوم في أُذْنِها

جعفر عباس
1300x600
1300x600

الواقع الراهن في السودان رمادي قاتم، ليس فقط لأن الأوضاع الاقتصادية مأساوية، ولكن لأن نظام الحكم فيه يقوم على قوائم مختلة، فالحكومات الراشدة ـ وبعض الضال منها أيضا ـ تقوم على قوائم أربعة هي السيادة والتنفيذ والتشريع والقضاء، وفي سودان اليوم هناك مجلس سيادي يمثل رئاسة الدولة، ومجلس وزراء يملك الكثير من الصلاحيات التنفيذية، وهناك أيضا هيئة قضائية ما زال كثيرون من أقطابها من أزلام نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، بينما لا وجود لمايسترو الحكم، أي المجلس التشريعي الذي يضطلع بسن القوانين ومراقبة وضبط أداء جميع هياكل الحكم، ويتشارك المجلسان السيادي والوزاري مهام التشريع، ولكن فقط من الناحية النظرية، فهذه مياه ساخنة متروكة لمجلس تشريعي حقيقي يتألف من مئات البرلمانيين.

 

عسكريون في القمة

وأكبر مواطن علة الحكومة السودانية الحالية هي وجود عسكريين في قمة هرمها، تشير ممارساتهم وأقوالهم الى أنهم غير مقتنعين بأن اقتلاع نظام حكم ظل قائما طوال ثلاثين سنة، يستوجب تغييرا شاملا في أساليب الحكم والآداء والتعامل مع القوى الهائلة التي بذلت الدم والدموع لتحقيق الاقتلاع والتغيير، وخير شاهد على ذلك ما ذكرته في مقالي هنا يوم السبت الماضي، من حيث تعامل الشرطة الفظ مع الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع يوم الخميس 20 شباط (فبراير) الجاري في مسيرة "رد الجميل" لرجالات القوات المسلحة الذين حملوا السلاح دفاعا عن القوى المدنية، خلال الحراك الشعبي المطالب بإسقاط نظام عمر البشير.

 

العسكر لن يتخلوا بسهولة عن امبراطورية اقتصادية بتلك الضخامة، ولكن وكما أجبرهم الحراك المدني على تقاسم السلطة مع المدنيين، فهو كفيل بانتزاع بعض أو كل موارد البلاد الاقتصادية من أيديهم لتصبح في أيدي جميع المواطنين.


كان اليوم الثالث من حزيران (يونيو) من العام الماضي قد شهد مذبحة بشعة راح ضحيتها ما يربو عن مائة وعشرين شابا بأيدي قوات نظامية، وكانت جميع السلطات وقتها بيد مجلس عسكري كان رافضا تماما إشراك قوى الثورة المدنية في الحكم، ثم خرج المجلس بتبرير سخيف للمجزرة بالتعلل بأن من كان مستهدفا بالعملية العسكرية بؤرة تؤمها مجموعة من الخارجين عن القانون الجنائي، ولكن "حدس ما حدس" كما قال الفريق شمس الدين كباشي الناطق باسم المجلس العسكري مضحيا بحرف الثاء، وإلى يومنا هذا ما زال الشارع السوداني في انتظار معرفة كيف حدس ما حدس.

بعد العدوان البوليسي الغاشم على مواكب 20 شباط (فبراير) تفجرت براكين الغضب الشعبي وأصدر مجلس الوزراء المدني بيانا يدين فيه البطش بمتظاهرين سلميين، ومرة أخرى مارس كباشي مجددا هواية لَيّ عنق الحقيقة وقال إن "مندسين" خرجوا بالمواكب عن غاياتها مما استوجب تعامل الشرطة معها "وفق القانون"، وهكذا كان كما يقول أهل السودان يجرح ويداوي، لأنه كان يدافع عن حق تسيير المواكب ثم يدافع عن حق الشرطة في قمعها.

ولا يعزى اعتلال نظام الحكم الراهن في السودان فقط لوجود العسكر في قمة هرم السلطة، بل لأنهم لا يحترمون أصول اللعب السياسي وفصل السلطات والاختصاصات، وامسكوا بملف السلام والتفاوض مع الحركات حاملة السلاح، دون ان تكون لمفاوضيهم بمن فيهم المديين من أعضاء مجلس السيادة أي خبرة في مجالات التفاوض او التعامل مع الأمور موضع النزاع بين الحكومة المركزية وتلك الحركات، ثم كان ما كان من أمر قيام رئيس مجلس السيادة المشير عبد الفتاح البرهان، وبمبادرة شخصية بالتفاوض مع بنيامين نتنياهو حول تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان.

 

الاقتصاد الموازي
 
ما هو أخطر من كل ذلك هو أن عسكر السودان ـ حسبما تفيد الوقائع وقرائن الأحوال ـ عازمون على امتلاك المؤسسة العسكرية لاقتصاد موازٍ، موارده وعائداته أضخم من عائدات الحكومة المركزية ووزارة المالية التي يفترض أن لها الولاية على المال العام، وكان من آيات ذلك أن المجلس العسكري استبق تكوين الحكومة المدنية في آب (أغسطس) من عام 2019، بضم الهيئة القومية للإتصالات إلى القوات المسلحة، إلى جانب هيئة الطيران المدني والمطارات المدنية، وتحت مسمى التصنيع الحربي يملك الجيش السوداني مصانع للأدوات البلاستيكية والأحذية والأسمنت والبلاط والرخام والسيارات، والملبوسات، ومسالخ وشركات تتولى تصدير اللحوم، والحبوب والصمغ، ومزارع ضخمة للإنتاج الحيواني، ومن باب كف العين، وتعني هنا إسكات الأصوات التي تحتج على وجود كل تلك الموارد الاقتصادية والمالية بعيدا عن إشراف الحكومة، تعهد قادة الجيش بدعم الخزينة العامة بملياري دولار سنويا، ولك أن تتخيل حجم الموارد التي تسمح للعسكريين بالتصدق بالمليارين لـ "الحكومة" التي يفترض أنهم طرف أصيل فيها.

ولهذا أصيح للخرطوم في أُذنها: بدلا من السعي للحصول على منح مالية مُذِلّة، وقروض أرباحها مركبة ومربكة، والبلاد سلفا لا طاقة بها لسداد الديون التي راكمها نظام عمر البشير، على الحكومة أن تُخضِع كافة موارد البلاد الاقتصادية لسلطتها، ولن يكون ذلك أمرا سهلا، فالعسكر لن يتخلوا بسهولة عن امبراطورية اقتصادية بتلك الضخامة، ولكن وكما أجبرهم الحراك المدني على تقاسم السلطة مع المدنيين، فهو كفيل بانتزاع بعض أو كل موارد البلاد الاقتصادية من أيديهم لتصبح في أيدي جميع المواطنين.

التعليقات (1)
الراهبم
السبت، 29-02-2020 03:33 م
فينك ابوالجعافر بشرنا عنك شاءالله تكون منيح