كتب

هل استفاق اللاهوتي المسيحي لمقاومة تغول الحداثة والعلمانية؟

موقف اللاهوت الكنسي من التحديات التي أثارتها الحداثة المعاصرة
موقف اللاهوت الكنسي من التحديات التي أثارتها الحداثة المعاصرة

الكتاب: اللاهوت المسيحي المعاصر وقضايا الحداثة
المؤلف: عبد الواحد العلمي
الناشر: منشورات حركة التوحيد والإصلاح
الطبعة الأولى: 2020
عدد الصفحات: 166 صفحة

هل انتهى الفكر اللاهوتي المسيحي بمجرد انتصار الحداثة وهيمنة منطقها، أم إنه اضطر لمسايرة مفاهيمها ومقولاتها وحاول التكيف معها لإثبات نوع من الوجود؟ أم إن هذا الفكر لا يزال يحتفظ بمواقعه التقليدية ويسعى للعودة لقواعده الخلفية وقناعاته الأصلية، وبلورة مواقفه الجديدة وتحديد تموقعه الجديد كفكر مقاوم للحداثة التي تستهدف منظومة القيم التي يدافع عنها؟

أسئلة لم تجد لحد الساعة كتابات أكاديمية رصينة تستعين بأدوات البحث العلمي والمواكبة الدقيقة لتموقع الكنيسة في محيطها الاجتماعي والسياسي للإجابة عنها، لا سيما في المجتمعات العربية الإسلامية، التي انشغلت بإثبات التلازم بين السياسي والديني في الثقافة العربية الإسلامية، واكتفت بتبرير التمايز بين التجربة العربية الإسلامية وبين التجربة الغربية في هذا السياق مستصحبة القراءة التي ترسخ مفهوم الفصام النكد بين السياسة والدين في التجربة الحضارية الغربية، وانهيار المنظومة الدينية برمتها، وتراجع الفكر اللاهوتي المسيحي وتغول الحداثة وسيطرتها على كل المساحات، بما في ذلك مساحة الديني والروحي والرمزي.

 

الحداثة حولت الدين إلى موضوع للسؤال والنقد، وحررت العقل للاشتغال حول مسلماته واختبار منطقه الداخلي،


في هذا السياق يندرج كتاب الأستاذ عبد الواحد العلمي "اللاهوت المسيحي المعاصر وقضايا الحداثة" لمحاول الإجابة عن هذا السؤال، وبحث تطور الأفكار الكنسي بعد الحداثة، ومسار الاشتباك الذي أحدثه مع قضاياها لا سيما ما يرتبط بالعائلة والأسرة ومنظومة القيم.

ويتميز الكتاب بكونه إلى جانب البعد الأكاديمي فيه، الذي ظهر باقتصاد غير مخل في فصول الكتاب، قد جاء ثمرة ممارسة عملية وتراكم تجربة مؤلفه في الحوار الديني خاضها المؤلف حسب ما ذكر في مقدمة كتابه، بأشكال مختلفة وعلى مستويات متعددة (أكاديمية وشعبية)، لسنوات عديدة داخل الواقع الأوروبي، إذ كانت هذه التجربة الحافز الأكبر على الاقتراب العلمي من هذا الموضوع واكتساب معرفة أعمق به انضافت إلى البعد ألأكاديمي للباحث.

في توسيع مفهوم اللاهوت المسيحي

من البدء يحسم المؤلف في مفهوم اللاهوت المسيحي، ويحاول الابتعاد ما أمكن أن المفهوم الضيق الذي تم إلصاقه به، فاللاهوت المسيحي بالتحديد الذي اختاره المؤلف، ليس هو الفكر الكنسي الذي يدور حول الثيولوجيا المسيحية كما ارتسمت في رايات الكتاب المقدس، وإنما هو كل الأفكار الرؤى التي تصدر عن الكنيسة سواء ارتبطت بالنص المسيحي، أو ارتبطت باشتباكها مع الواقع الاجتماعي والسياسي، ومن ثمة، فالآراء الكنيسة حول قضايا الزواج والطلاق والعلاقات الجنسية والإجهاض وغيرها من القضايا السجالية التي اثارها تطور الحداثة، تدخل في صميم اللاهوت المسيحي لا سيما إن صدر عن الكنيسة راي بشأنها.

يحدد الكاتب مفهومه للاهوت المسيحي، بهذا التوصيف، ويحاول منذ البداية وضع القارئ أمام شرطه المنهجي في التحديد المفاهيمي، فهو لا يقصد المفهوم التخصصي الذي يتم تداوله في الغالب حينما يطلق لفظ اللاهوت المسيحي، وإنما يوسع الدلالة حتى يصير بالإمكان مناقشة اشتباك الكنيسة مع قضايا الحداثة، ولذلك يلجأ إلى تعريف موسع للاهوت المسيحي يشمل خطاب الكنيسة الذي يتمحور حول كل القضايا التي تشتبك معها، سواء منها القضايا العقدية المرتبطة بالنص الديني، أو القضايا التي اصبحت مثار جدل من قبل المجتمع الحداثي، مما يتصل بقضايا الأسرة والعائلة والقيم، مثل قضايا الزواج والطلاق والإجهاض والقيم، أو مختلف القضايا والمسائل الجديدة التي أفرزها تطور المجتمع المعاصر مما لم يكن للكنيسة رأي حولها في السابق. 

اللاهوت المسيحي في قلب الجدل حول قضايا الحداثة

يسجل الباحث الاختلاف والتمايز الذي طبع تعامل الدارسين مع اللاهوت المسيحي، كما يسجل في المقابل التقييمات المختلفة التي أثيرت حول شكل تعامل اللاهوت المسيحي مع الحداثة والتأويلات التي أحدثتها للتكيف مع مختلف السيرورات والقضايا التي أفرزتها، ففي الوقت الذي ينعت فيه خصوم الحداثة من اللاهوتيين التطور الذي عرفه اللاهوت المسيحي المتكيف مع منطقها بالكارثي والمنافي لروح التقليد المسيحي، يبارك فريق آخر هذه التحولات التي عرفها اللاهوت المسيحي، ويعتبر أن الحداثة حولت الدين إلى موضوع للسؤال والنقد، وحررت العقل للاشتغال حول مسلماته واختبار منطقه الداخلي، في حين يرى فريق ثالث أن اللاهوت المسيحي في أشكال تكيفه واشتباكه مع القضايا التي اثارتها تطور المجتمعات المعاصرة، لا يزال يعيش مأزق تطوره، ولم يظهر بشكل كاف قدرته على مسايرة ومواكبة التحولات التي عرفتها المجتمعات المسيحية المعاصرة.

من جهة مقابلة، يسود جدل آخر، حول تقييم اللاهوت المسيحي، ففي الوقت يستسلم كثير من الباحثين للرؤى التي ترى أن اللاهوت المسيحي استنفذ أغراضه، وحسم أمره مع الحداثة التي آخر إسفين في نعشه معلنة نهايته، وأن التحولات التي أفرزتها كان لها كبير حتى على الخلفيات الدينية للمجتمعات المسيحية، توضح الوقائع المرتبطة برصد مختلف الخطابات التي تصدر من الكنيسة استمرار التوتر بين مختلف مظاهر الحداثة والتدين المسيحي المستند إلى رؤى لاهوتية عقدية، إذ لا تكاد تنمر فترات دون أن يصدر عن الكنيسة مواقف وتصورات لاهوتية تثير جدلا واسعا، وتنشئ توترا مجتمعيات حول  بعض القضايا، وتقسم الراي العام إلى فريق راض عنها وفريق آخر غاضب منها، وتغذي جزءا كبيرا من النقاش العمومي، ويتحول أحيانا إلى حروب كلامية حادة، ويستعيد النقاش حول علاقة الدين بالحداثة جزءا من عافيته  إن لم نقل من جدواه رغم الزعم  بموت اللاهوت وانتصار الحداثة، بل تتبرر لدى البعض مطالب للتوفيق بين المسيحية والحداثة، سواء في الأوساط الفكرية أو النوادي السياسية والاجتماعية.
 
ويعبر هذا النقاش المتجدد بين الدين والعلمانية أو بين الدين ومفرزات الحداثة، فكرة ألا شيء حسم بشكل مطلق لجهة الحداثة، وأن النقاش لا يزال يتجدد حول العديد من القضايا سواء من قبل اللاهوتيين أم من قبل العلمانيين، وأن الكنيسة لا تزال ثابتة على بعض مواقفها، بل إن ثباتها تجاوز الموقف الديني المرتبط بتأويل النص المسيحي، إلى الاشتباك مع الواقع والانخراط في بعض الديناميات المجتمعية، وأنها تسعى إلى كسب مواقع جديدة من خلال عمليات الإقناع التي تمارسها حتى داخل الأوساط المتشبعة بالفكر الحداثي. وتتصدر قضايا الطلاق والإجهاض والموقف من العلمانية ومكانة المرأة في المراتب الكنسية واجهة هذه النقاشات المتفجرة في المجتمعات المسيحية المعاصرة.

ويثير الباحث في كتابه قضية أخرى أكثر حساسية، وتتمثل في موقف اللاهوت المسيحي من العلمانية، ومحاولتها الحثيثة للتموقع من جديد من خلال اجتراح فعل المقاومة لضغوط العلمانية وإكراهاتها، فليس صحيحا أن اللاهوت المسيحي استسلم للعلمانية ورضي بشكل مطلق بالموقع الذي سمحت العلمانية له به، وإنما تحاول الكنيسة دائما بحسب دينامياتها المختلفة أن تغادر موقع الإكراه الذي أدخلتها العلمانية إليه، وأن تتحرر من الغربة التي فرضت عليها داخل مجتمعاتها، بتوسع أنشطتها وفك الحصار والتضييق المفروض عليها،  إذ لم تعد تطيق تقبل حصر الدين في مجال ضيق بمعزل عن الفعالية الحيوية داخل المجتمع، رغم حجم الاتفاقيات والصكوك والمعاهدات القانونية (قانون العلمانية في فرنسا 1905، أو مع موسوليني سنة 1929في إيطاليا، ومع سالازار سنة 1940 في البرتغال، ومع فرانكو في إسبانيا سنة 1950) التي حددت وظائفها ورسمت تضييق مجالها الحيوي. 

 

يعبر هذا النقاش المتجدد بين الدين والعلمانية أو بين الدين ومفرزات الحداثة، فكرة ألا شيء حسم بشكل مطلق لجهة الحداثة، وأن النقاش لا يزال يتجدد حول العديد من القضايا سواء من قبل اللاهوتيين أم من قبل العلمانيين،


ويسجل الباحث بهذا الصدد واقع التردد الذي حكم سلوك الكنيسة في التعامل مع الواقع الذي فرضته هذه الكوك القانونية، والذي وصل أحياما حد اتخاذ إجدراءات عقابية في حق كثير من اللاهوتيين التي تمردوا على الكنيسة  فتم تفعيل الحرمان الكنسي أو الطرد من السلك الكهنوتي في حقهم بسبب مواقف اتخذوها خلافا لمقتضيات هذه الصكوك القانونية، وهي عند الاستقصاء والاستقراء كما يرى المؤلف، تتعلق أغلبها بالموقف من الحداثة ومختلف تجلياتها، ومن هؤلاء المطرودين هانس كونغ، أوجن دريورمان، جون صوبرينو  وآخرون كثر. 

ويذكر المؤلف في هذا السياق الجدل الذي اثير حول الهوية الثقافية للاتحاد الأوربي وموقع الدين في صياغتها، وكيف جندت الكنيسة كل جهودها من أن تدرج المكون المسيحي اليهودي كمكون أساسي للهوية ألأوروبية، وكيف تم مواجهتها من قبل السياسيين والنواب الأوربيين الذين صوتوا ضد هذا المقترح، كما أدرج مثال توسيع حق الزواج ليضم زواج المثليين، وكيف جندت الكنيسة طاقتها من أجل التصدي لهذا المطلب، وكيف استبان الشرخ والهوة القاطعة التي تفصل الكنيسة عن كثير ممن يحسبون ضمن رعاياها أو أتباعها الثقافيين.

أزمة اللاهوت المسيحي

بدأ الباحث كتابه بتقديم توطئة تاريخية حاولت أن ترصد تاريخ أزمة العلاقة بين الكنيسة وبين الأنظمة العلمانية الأوروبية، ومراحل تطور موقفها لاهوتيا وسياسيا من مسألة الحداثة، وكيف اصطدم بابا روما والكنيسة مع بعض اللاهوتيين والمثقفين المسيحيين المتدينين الذين كانوا يتطلعون الى التوفيق بين تعاليم المسيحية ومقتضيات المعارف العصرية، وهذا ما سمي بأزمة العصرانية (أو المودرنيزم).

ودرس في الفصل الأول الموقف الديني اللاهوتي للكنيسة من العلمانية أحد أهم ثوابت الأنظمة الحداثية المعاصرة، إذ توقف الباحث على فكرة تأصيل العلمانية من النص الديني المسيحي، انطلاقا من النص المسيحي "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فبين الصعوبات الكبيرة التي تعترض هذه الأطروحة، ثم اتجه بعد ذلك إلى استعراض التطور التاريخي لمواقف الكنيسة من العلمانية، وذلك من الرفض المطلق، إلى التكيف، ثم الجنوح نحو المقاومة بشتى أشكالها الصاخبة والصامتة.
 
وتناول في الفصل الثاني موقع المسألة النسائية في الفكر الكنسي المعاصر، منطلقا في البدء برصد أشكال حضور المرأة في العهدين الجديد والقديم، واستعراض الإرهاصات المعاصرة الأولى لبناء لاهوت نسوي يمنح المرأة المسيحية حق التأويل وقراءة النصوص المقدسة، والنقاش الذي احتف بهذه المحاولات حول رؤية الكتاب المقدس للمرأة، وتكريسه لدونية المرأة وتبعتها للرجل وإعلائه لروحيانية الرجل على حساب المرأة وغير ذلك من المفاهيم النمطية التي تحط من قدر المرأة ومكانتها.  إذ تحولت هذه القضايا إلى صميم النقاش اللاهوتي، وانعكست مصاحباتها على أشكال من تأويل النص الديني لجهة تجديد المواقف والتأصيل لموقع للمرأة في السلك الكهنوتي.
 
أما في الفصل الثالث، فقد حاول الباحث دراسة حضور العنف داخل العهدين القديم والجديد، ورصد مختلف القراءات اللاهوتية في التعامل معها، والطرق الجديدة أو التجديدية التي أخذها التأويل اللاهوتي لهذه القضية، في حين عرض الفصل الرابع قراءة توصيفية ونقدية لحدث "سينودس العائلة" أو ما سماه الكاتب بـ"مجمع العائلة"، الذي انعقد تحت إشراف البابا فرانسوا الحالي، والذي أثار معارك وسجالات لاهوتية قوية داخل صفوف الأساقفة، وبين بعض الأساقفة والبابا نفسه. فتعرض المؤلف لسياق انعقاد هذا المجمع، ونتائجه وردود الأفعال الذي اثارها، لاسيما منها الرافضة والناقدة لما دار في المجمع وكذا الموعظة الختامية للبابا نفسه، التي كانت أقوى وثيقة وأشدها إثارة للجدل اللاهوتي إلى اليوم.

وختم كتابه، باستجوابين لعالمين من علماء اللاهوت بأوروبا هما اللاهوتي الدومنيكاني إغناس بِرتن، واللاهوتي الأستاذ في جامعة لوفن بنوا بورجين حول مختلف القضايا والإشكالات التي تواجه الكنيسة واللاهوت المسيحي المعاصر، فجمع الكاتب بذلك بين التناول الأكاديمي ومنهجية المقابلة في موضوع واحد يتعلق بموقف اللاهوت الكنسي من التحديات التي اثارتها الحداثة المعاصرة.

وعلى الجملة، فقد حاول الباحث في كتابه أن يرصد واقع أزمة اللاهوت المسيحي، والانسداد الذي طبع اشتغال العقل المسيحي في الاشتباك مع العديد من القضايا التي أفرزتها المجتمعات المسيحية المعاصرة، وتابع جزءا مهما من النقاشات داخل الكنيسة وخارجها، بشأن الموقف من العلمانية، والثانية المسألة النسائية في الفكر الكنسي، ومسألة العنف في الفكر الكنسي أو في التأويل المسيحي لنصوص الكتاب المقدس، وفتح شعاع ضوء جديد لتملس تطور اللاهوت المسيحي واستشراف تحولاته المستقبلية بعيدا عن النظرة النمطية التي تجزم وتحسم بنهاية عصر الدين في أوربا وانتصار الحداثة وتغولها.

التعليقات (0)