أخبار ثقافية

مارتن لوثر: شرارة تفجر الكنيسة الكاثوليكية (1-2)

مارتن لوثر - جيتي
مارتن لوثر - جيتي

لم ينظر مارتن لوثر (1483- 1546) إلى نفسه على أنه فيلسوف يمتلك نظرية فلسفية شاملة للحياة والوجود، ولم يقدم نفسه كسياسي لديه نظرية عامة في السياسة، كما أنه لم ينظر إلى نفسه على أنه لاهوتي عظيم على غرار أوغسطين أو توما الأكويني.

لقد كان لوثر لاهوتيا عاديا، نظر إلى الدين المسيحي من منظار بسيط خال من تكاليف العقيدة المتطورة ومتاهات الكنيسة المتكلفة.

هدفه كان العودة بالمسيحية إلى طبيعتها الأولى وتجريدها من كافة اللواحق التي ارتبطت بها على مدار القرون الماضية، وسببت أذى لجوهرها السامي.

وبهذا المعنى تلتقي أفكار لوثر مع جميع الأفكار السلفية في الديانات عموما التي تسعى العودة إلى ينابيعها الأصلية، إنها عودة إلى الوراء على مستوى النص، لكنها ليست كذلك على مستوى التاريخ.

بعبارة أخرى، إن العودة إلى الماضي ليس لأجل الماضي ذاته، وإنما لأجل حاضرنا ومستقبلنا، ولذلك فجرت محاولته تخليص العقيدة من "الانحرافات" التي طرأت عليها صراعا حادا مع الكنيسة الكاثوليكية، ومهدت الطريق لانطلاق ما عرف حينه بالإصلاح الديني الكبير.

قلق روحي في ويتنبرغ

كانت نظرة لوثر في بداية حياته تحمل طابعا تشاؤميا حادا تجاه الله، لأن أوامر الله غامضة جدا يصعب على العقل البشري إدراكها، وبالتالي يصعب على الإنسان تطبيقها، وبهذا المعنى يبقى الإنسان أبد الدهر يتحمل الخطيئة ولا إمكانية له للخلاص.


ونتيجة لذلك، لا إمكانية للإنسان المسيحي أن يتحرر من الخطيئة عبر الأعمال، فمهما اجتهد في العبادة وفي فعل الخير داخل المجتمع، فلن يحقق خلاصه، لأن كل هذه العبادات والأعمال الصالحة لن تحقق المعنى العميق الذي يريده الله، وعليه فإننا ملزمون كبشر إطاعة أوامر الله ليس لأنها عادلة وخيرة، بل لأنها ببساطة أوامر الله.

هذا الاستسلام العبودي لله، لم يحل أزمة لوثر الروحية، فقد بقيت كراهيته لله قائمة، لأنه قدم للبشر شريعة هم عاجزون عن إدراكها والقيام بها.

في عام 1505 تصاعدت الأزمة الروحية عنده مع دخوله في الرهبنة الأوغسطينية، ووصلت ذروتها عام 1510 حين أوفد بمهمة رسمية إلى روما، وشاهد بأم عينه ما اعتقد أنها انحرافات لرجال الكنيسة واستغلالهم للناس عبر بيع صكوك الغفران كطريق للخلاص الفردي.

خلال هذه السنوات وصل لوثر إلى مرحلة يأس كاملة من الله، وأصبح غير قادر على تعقل وفهم رسائل القديس بولس حول مفهوم الصلاح الإلهي.

وفي عام 1513 بدا أن لوثر قد حصل على رؤية لاهوتية جديدة تقطع نهائيا مع مرحلة اليأس والكره السابقة، كان ذلك أثناء وجوده في غرفة البرج في دير ويتنبرغ وهو يطالع المزامير، وإذا به يحصل على تفسير وتأويل جديد كليا لعبارة "خلصني ببرك".

فجأة استبعد من ذهن لوثر ذلك التأويل السابق للبر الذي يشير إلى قوى العقاب عند الله للناس الخطأة، وحل محله معنى آخر للبر يتمثل باستعداد الله لرحم الخطأة من البشر على الرغم من عدم صلاحهم.

عقيدة التبرير

الفكرة الأساسية في ثيولوجيا لوثر هي التبرير أو الخلاص بالإيمان وحده وليس بالأعمال، وهذا هو المعنى الكبير والعميق للبر الإلهي، فالله يخلص عباده الخطأة برحمته وبره وليس بسبب أعمالهم.


ومن غير الواضح ما هي المقدمات النظرية أو التاريخية التي دفعت لوثر إلى هذه الخلاصة الراديكالية والجبرية، هل هي ناجمة عن رؤية لاهوتية لجوهر الإيمان وتبعاته السلوكية، أم رد فعل حاد على سلوك الكنيسة التي وضعت نفسها واسطة بين الله والإنسان؟

من الصعب الإجابة على هذا السؤال، لكن التبرئة عن طريق الإيمان وحده تضرب عرض الحائط صحة الأحكام البشرية ذات القيمة أمام الله، وتجعل أي اعتبار جدي للأخلاق والسياسة مستحيلا بحسب ليفي شتراوس.

وهنا تطرح إشكالية كبيرة، ما الذي يجعل من الإنسان خيرا، إيمانه أم أعماله؟


يجيب لوثر، إنه عندما يعرف الإنسان نفسه على أنه يبرأ عن طريق الإيمان وحده فإن إيمانه يصبح بالضرورة فعالا بالحب لجاره، فنحن لا نصبح مستقيمين عن طريق فعل الأفعال المستقيمة، ولكن لأننا مستقيمون، فإننا نفعل الأفعال المستقيمة.

ومع ذلك يبقى ثمة فصل حاد بين الإيمان والفعل الإنساني، التمييز بين مفهوم العدل الذي يستطيع المسيحيون تحصيله في عالم المسيح، والعدل المدني الذي ليس جزءا من الخلاص.

لقد مكن اعتقاد لوثر بنعمة الله المخلصة من أن يحل المعضلة القاسية الموجودة في العهد القديم بناموسه الذي لا أمل لأحد باتباعه، وتهديده بلعنة من يتبعوه، وقد اتخذ جوابه صورة إنشاء تضاد حاد ما بين رسالة العهد القديم ورسالة العهد الجديد، أي التضاد بين أوامر الله المستحيلة ووعوده المخلصة.

وتكون النتيجة بالنسبة للوثر متمثلة في القول إنه من الجوهري فهم وصايا الناموس (الوصايا العشر) في ضوء الإنجيل، لا الإنجيل في ضوء الناموس.

ضد العقل

شكل رأي لوثر قطيعة معرفية ودينية مع الفكر الإنساني في عصره ممثلا بـ إراسموس، ومع أفكار العصر الوسيط الدينية ـ العقلية ممثلة بالقديس توما الأكويني، واختار لنفسه نمط التفكير الأوغسطيني المتشائم حيال العلاقة بين الإنسان والله.

إنها لاعقلانية دينية أو رجعية عبرت عن نفسها في كتابه الذي حمل عنوان "عبودية الإرادة" الذي ألفه عام 1525 ردا على كتاب إراسموس "حول حرية الإرادة".

رفض لوثر أي إعمال للعقل في الإيمان، فالله وأسراره ومقاصده لا يمكن إدراكها بالعقل البشري، ومن مفارقات التاريخ أن السكولاستيكيون التومائيون ومن ثم اليسوعيون الذين حاولوا التوفيق بين العقل والنقل، بدوا رجعيين في ذلك العصر، في حين اعتبرت آراء لوثر المناهضة للعقل على المستوى الديني، حداثية آنذاك. 

على سبيل المثال، آمن لوثر بحرفية الأفخاريستا، أي تجسد المسيح في القربان المقدس في طقس المناولة، وهو موضوع نقاش أثارته التيارات العقلانية الإصلاحية التي رفضت فكرة تجسد المسيح في الخبز أو دمه في الخمر عند المناولة باعتبارها فعلا سحريا غير عقلاني، على عكس لوثر الذي آمن بالتجسد المادي.

كيف أمكن لأفكار رجعية أن تعتبر حداثية ومطلوبة في ذلك العصر؟

الصراع مع الكنيسة

في 31 أكتوبر 1517 علق مارتن لوثر البالغ من العمر 34 عاما على باب الكنيسة الجماعية في ويتنبرغ بساكس إعلانا يتضمن 95 أطروحة ضد صكوك الغفران.

وكانت الأطروحات الـ 95 مخصصة لحرية الضمير وعدم الانصياع لأوامر الكنيسة فيما يتعلق بالخلاص.

وجاءت هذه الأطروحات في ذروة استخدام الكنيسة لصكوك الغفران من أجل الحصول على المال، وكان يشرف على هذه التجارة راهب دومنيكي اسمه يوحنا تتسل، وشيئا فشيئا بدت تعاليم لوثر تنتشر كالنار في الهشيم وبدأ كثير من الناس في ألمانيا بعدم دفع المال مقابل صكوك الغفران.

في عام 1518 تدخل البابا ليو العاشر وطلب استدعاء لوثر إلى روما لاستجوابه، وعام 1520 نشر لوثر نداءه الشهير الموجه إلى النبلاء في ألمانيا عبر رسالة عنونت "في الأسر البابلي للكنيسة"، هاجم فيها المذهب النظري للكنيسة الكاثوليكية في روما، حيث رفض خمسة أسرار من أصل الأسرار السبعة، فيما قبل بسرين، هما: 

1ـ المعمودية وهي أولى الأسرار السبعة أو هي المدخل إلى الأسرار السبعة وبدونها لا يتم أي سر ولعلها من أجل هذا أخذت اسم المعمودية لأنها عماد الأسرار. 

2ـ الأفخاريستا، وفي هذا السر لا توجد استحالة، فالخبز لا يتحول إلى جسد المسيح ولا الخمر يتحول إلى دمه، لكن الخبز والخمر يظلان كما هما ويحل المسيح فيهما، لذلك يسميه لوثر بالحلول المزدوج أي حلول شيئين في وقت واحد، وشبه هذا بالتجسد.. فان اللاهوت لم يلغي أو يلاشي الناسوت وإنما احتفظ كل منهما بطبيعته.

على إثر ذلك أصدر البابا ليو العاشر حرمان كنسيا بحق لوثر، لكن الأخير حرق المرسوم علنا أمام الناس، وسرعان ما دخل معه الكثير من الناس وبدأت الفوضى تعم البلاد.

لم يكن الغضب الذي اعترى الكنيسة ناجما عن آراء لوثر في العقيدة ذاتها، بقدر ما كان مرتبطا بسلطة الكنيسة، فلوثر لم يكن يهدف من وراء أطروحاته كشف زيف وانتهاكات الكنيسة فحسب، وإنما وهذا هو الأهم ضرب مشروعيتها الدينية.

من هنا وجدت فيه الكنيسة تهديدا لنفوذها السياسي والاقتصادي، كما هو الحال مع نشوء أي دين جديد، كما حصل مع النبي محمد، حين نظرت قريش إلى دعوته من منظار سياسي ـ اقتصادي، يهدد مكانتها السياسية والاقتصادية، ولذلك حاربته.

فما دام الخلاص يكتسب بالإيمان وحده فقد لزم أن الكنيسة الحقيقية هي جماعة محض روحية، إنها كنيسة لا مرئية، وبالتالي لا داعي لكنيسة مرئية.

إن أهمية لوثر التي جعلت منه مفجر حركة الإصلاح الديني، ومبشرا بإطلاق حركة الحداثة، لا تكمن في أفكاره الرجعية على مستوى الدين، وإنما في إطلاقه سيرورة علمنة الدين أو دنيوة الدين، وإطلاق مرحلة إنهاء سلطة الكنيسة في الحياة السياسية والمدنية، وإرجاع الدين إلى الضمائر، بغض النظر عن محتوى الدين كعقيدة.

 

اقرأ أيضا: مارتن لوثر رجعية دينية تمهد لحداثة سياسية 2- 2

التعليقات (1)
morad alamdar
الإثنين، 20-01-2020 11:16 ص
كلمة ^^ الإسلام ^^ مشتقة من الكلمة ^^ سلام ^^ اليوم .. أكبر أعداء الإسلام هو الإعلام .. الإعلام يلتقط آيات القرآن و يقتبسها خارج سياقها ليشوه صورة الإسلام .. ما معنى مسلم .. المسلم هو الشخص الذي يخضع إراته للإله .. كما قال عيسى عليه السلام في كتاب يوحنا الإصحاح 5 .. العدد 3OO .. لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني المسيح عيسى عليه السلام قال أنه مسلم بهذه الحالة .. المسيح عيسى عليه السلام هو مسلم و نحن المسلمون نكون مسيحين أكثر من المسيحين أنفسهم .. عيسى ما كان سوى كلمة .. أضاء الدنيا بالكلمات و علمها للصّيادين فصاروا يهدون العالم .. الكلمة زلزلة الظالم .. الكلمة حصن الحرية .. إن الكلمة مسؤلية .. إن الرّجل هو الكلمة .. شرف الرّجل هو الكلمة .. كما قال سيدنا عيسى عليه السلام : ^^ و تبنون فوق الأمواج بويتاً قواررة ^^ .. اعلموا أن فوقكم و فوقنا قوي لا قوة إلا بالله العلي العظيم ^^ .. و نسأل الله أن يلطف بعباده فنحن في مشكلات صحية و أمنية و إقتصادية في جميع بلاد المسلمين .. و السبب في معابد و هياكل الرأسمالية الشمطاء شعارها كن كما نريد ، و لا تكون كما تريد ، نحن ننتج و أنت تستهلك فقط ، لا تفكر ، نحن نفكر لك و من أجلك .. يقول الغزالي : الحرية مع الألم أكرم من العبودية مع السعادة .