قضايا وآراء

هل هي حقّا حكومة "كفاءات وطنية مستقلة"؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

مهما اختلفت الروايات "الحزبية" لأسباب فشل تشكيل حكومة سياسية بين حركة النهضة وبين شريكيها الأبرزين في التيار الديمقراطي وحركة الشعب، فإن رئيس الحكومة المكلف السيد الحبيب الجملي قد استغل هذه الوضعية (بدفع من حركة النهضة كما يرى البعض أو بضرب من التمرد الخفي وبسوء تفسير متعمد لمعنى"حكومة كفاءات سياسية مستقلة" حسب البعض الآخر) لتشكيل حكومة مستقلة تماما عن الأحزاب، بما في ذلك حركة النهضة ذاتها التي كانت وراء تكليفه بتشكيل الحكومة.

وسواء أكان هذا التمشي تعبيرا عن ضعف المخيال السياسي لحركة النهضة بسبب إعراضها عن تمرير "حكومة أقلية" (وما يعنيه ذلك من مخاطرة بعدم تمرير البرلمان للحكومة في صورة القطع مع حزب "قلب تونس")، أم كان هذا الخيار هو التمشي الأكثر براغماتية والأقل كلفة سياسية بالنسبة لحركة النهضة (خاصة في علاقتها بوعودها الانتخابية التي أصبحت موضع تشكيك كبير حتى بين قواعدها الأشد حماسةً وقدرةً على تبرير الخيار وضده)، فإن الحكومة المرتقبة تعكس أزمة سياسية كبيرة، وهي أزمة ترتبط بتشظي القوى المحسوبة على الثورة من جهة أولى، وتعكس، من جهة ثانية، قدرة المنظومة القديمة على المحافظة على مواقعها ومصالحها، بل تغليب سرديتها البورقيبية وما انبنى عليها من خيارات ثقافية واقتصادية ذات جوهر جهوي (زبوني تابع) عبر بوّابة "الكفاءات الوطنية المستقلة".

 

الحكومة المرتقبة تعكس أزمة سياسية كبيرة، وهي أزمة ترتبط بتشظي القوى المحسوبة على الثورة من جهة أولى، وتعكس، من جهة ثانية، قدرة المنظومة القديمة على المحافظة على مواقعها ومصالحها

بحكم "اعتباطية" التفريق الذي تقيمه حركة النهضة وشركاؤها بين ورثة المنظومة القديمة (خاصة شقوق "نداء تونس")، كان من الواضح أن الحكومة "السياسية" حتى في صورة تشكيلها لن تذهب إلى التصادم مع منظومة الفساد إلى حد القطيعة مع أبرز مظاهرها، أي الفساد السياسي. فالتفريق مثلا بين "قلب تونس" (الذي لا تريد النهضة التحالف معه علنا) وبين "تحيا تونس" (الذي توافقت النهضة وشركاؤها على التطبيع معه وإدخاله إلى مفاوضات تشكيل الحكومة بصورة علنية)، هو تفريق لا يعكس في النهاية إلا رغبة الجميع في إشراك جزء من المنظومة السابقة في مواقع القرار، وعجزهم عن الحكم خارج السقف الذي حدده واقعيا ورثة المخلوع. ومن هذا المنظور يمكننا اعتبار "حكومة الكفاءات الوطنية المستقلة" تعبيرا عن النهايات المنطقية لهذا العقل السياسي "الثوري" في حده الأقصى و"الإصلاحي" في حده الأدنى، وهو العقل الذي تزعم حركة النهضة ومن فاوضتهم في تشكيل الحكومة (التيار، الشعب، الإئتلاف) تمثيله، بل احتكاره.

لعلّ أخطر ما يعكسه خيار حكومة "الكفاءات"، وهو خيار له مقدمات منطقية قد تجد جذرها في المسار المهني والسياسي لرئيس الحكومة المكلف ذاته، هو أنه لا يؤكد فقط عجز "السياسيين" المنحازين للثورة عن إيجاد أرضية للعمل المشترك، حتى في مشروع إصلاحي يتحرك ضمن الخيارات الكبرى للدولة قبل الثورة ولا يتجاوزها، بل هو تأكيد أيضا على استحالة تجاوز الميراث البشري لدولة المخلوع، وما يحكم ذلك الميراث كله من ارتباطات وولاءات وجهات ومواقف سلبية من "الثورة" ذاتها. فاستقالة السياسي أو إقالته من إدارة الشأن العام يهمّد الطريق أمام كفاءات "باهتة" لا يعلم الشعب عن كفاءاتها إلا مواقعها المتقدمة في نظام المخلوع، أو قدرتها على "العبور الآمن" من الزمن السياسي لنظام المخلوع إلى زمن الثورة دون أي كلفة تذكر، وذلك راجع بالأساس إلى قدرتها على "التأقلم الوظيفي"، أي على محو الشخصية أمام أصحاب القرار الحقيقي داخل المجتمع السياسي وخارجه قبل الثورة وبعدها.

 

تأكيد أيضا على استحالة تجاوز الميراث البشري لدولة المخلوع، وما يحكم ذلك الميراث كله من ارتباطات وولاءات وجهات ومواقف سلبية من "الثورة" ذاتها

قد تكون حكومة "الكفاءات الوطنية المستقلة" مخرجا مؤقتا من الأزمة"الحزبية" المستحكمة، وقد تكون أيضا حجة إضافية لترذيل المشهد الحزبي وتقوية موقف رئيس الدولة ومن يقف وراءه لتعديل المنظومة السياسية، ولكن تلك الحكومة ستكون بالضرورة حكومة "الدولة العميقة"، حتى إذا ما تمتعت بثقة نواب وكتل برلمانية يُفترض فيهم أن يقفوا على الضد من مصالح "الدولة العميقة" ومنطق إدارتها للشأن العام. ولكنّ هذا الواقع المتناقض ظاهريا يجد عقلانيته كاملة حين نربطه بالمسارات لكبرى للثورة التونسية منذ فشل/ إفشال قانون العزل السياسي، مرورا بانتقال الصراع من مدار التناقض مع المنظومة القديمة إلى مدار التناقض مع حركة النهضة، وانتهاء بالتوافق بين حركتي النهضة ونداء تونس بعد انتخابات 2014، وما عناه ذلك التوافق من تطبيع نهائي مع المنظومة القديمة، رغم كل مزايدات المعارضة وطهوريتها التي تحولت إلى حليف موضوعي لورثة المنظومة داخل الحقل السياسي وفي أذرعه المدنية والنقابية.

إن "الكفاءات الوطنية المستقلة" ليست في نهاية التحليل إلا استعارة من جملة الاستعارات المترسبة من زمن المخلوع (مثل المدنية والوطنية والحداثة والعائلة الديمقراطية وغيرها)، ولكنها تبقى "استعارة حية" وذات بعد وظيفي هام حتى بعد الثورة. فالكفاءة لا تتحدد فقط بقيمتها الذاتية (كالشهائد العلمية أو المسار المهني المتميز)، ولا تتحدد أيضا بمواقفها النقدية للنظام القديم أو مواقفها الداعمة للثورة، بل تتحدد أساسا بمقبوليتها لدى "الدولة العميقة" وقدرتها المفترضة على تحييد مظاهر المقاومة أو الرفض لوجودها. ولا شك في أن "الكفاءات الوطنية المستقلة" التي ستحضر في الحكومة ستكون نتيجة لهذا الجدل بين الحق في الاقتراح الذي يملكه رئيس الحكومة والنهضة، وبين "الرأي المطابق" الذي تملكه الدولة العميقة ممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الأعراف واللوبيات الجهوية، ومن يسندهم من القوى الإقليمية والدولية.

وبحكم عدم قدرة المنتظم السياسي "الثوري" على التفكير خارج منطق إصلاح المنظومة السابقة (أي إقراره ضمنيا بأن الخيارات الكبرى كانت صائبة ولكن المشكل في تطبيقها)، فإن خيار "الكفاءات الوطنية المستقلة" يُمثل إجابة منطقية عن سؤال: ما العمل لإدارة الشأن العام بمنظومة سياسية أقامت حملاتها الانتخابية على التقابل مع الدولة العميقة ولكنها موضوعيا تتحالف معها بل تخدمها؟ وهو ما يعني أن خيار رئيس الحكومة المكلف بتشكيل حكومة "كفاءات" هو الجواب "البراغماتي" الأفضل الذي سيجد فيه مختلف الفرقاء مصالحهم الآنية بدرجات متفاوتة، ولكنه جواب سينتج واقعيا سياسيا "لا وظيفيا" قد يعصف بالجميع (أو ببعضهم على الأرجح) ولو بعد حين.

التعليقات (0)