كتاب عربي 21

المصالحة التاريخية لم تأت من تونس

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

كتبنا وسنعيد؛ أن نقطة ضعف الثورة العربية للقرن الحادي والعشرين أو الربيع العربي كانت ولا تزال هي الخلاف العميق بين التيارات الليبرالية واليسارية وبين الإسلاميين. لقد كان هذا الخلاف هو المدخل الذي تسللت منه الثورة المضادة وخربت الأمل في التقدم نحو ديمقراطية تجمع فرقاء الفكر والأيديولوجية.

وكنا نأمل أن تقدم تونس نموذجا لهذه المصالحة عبر الاشتراك في الحكم بواسطة الصندوق الانتخابي. وكان هناك مؤشر واعد من خلال حكم الترويكا بين 2012 و2014، ولم نفقد الأمل في تطويره حتى جاءت انتخابات 2019 وأفرزت برلمانا متعددا، ودخل فرقاء السياسة في تفاوض لبناء حكومة تجمعهم، ولكن هذا الأمل انكسر نهائيا في تونس ليلة 22 من شهر كانون الأول/ ديسمبر، ونعتقد أنه انكسار نهائي لا جبر له، وهو الانكسار الذي سيعيدنا إلى ما قبل الثورة، حيث تقوم جدران عالية بين الإسلاميين وبين بقية التيارات السياسية واليسارية منها بالخصوص.

تجربة الترويكا تجربة واعدة ولكن منقوصة

أفرزت انتخابات 2011 مشهدا تعدديا تقدم فيه الإسلاميون بأغلبية، ومالوا إلى بناء اتفاقات سياسية بينهم وبين الدكتور المرزوقي وحزب المؤتمر والدكتور مصطفى بن جعفر وحزب التكتل، وأقيمت حكومة متعددة وتوزعت الرئاسات الثلاث بين الأحزاب الثلاثة، وبدا أن المصالحة التاريخية بين الإسلاميين والعلمانيين ممكنة ومنتجة.

 

الأمل انكسر نهائيا في تونس ليلة 22 من شهر كانون الأول/ ديسمبر، ونعتقد أنه انكسار نهائي لا جبر له، وهو الانكسار الذي سيعيدنا إلى ما قبل الثورة

كان من نتيجة هذا التحالف (الذي بدا غريبا وجديدا) أنْ وُضع الدستور ونال إجماعا، ولكن مجريات الحكم الثلاثي تعرضت إلى عمليات تخريب، خاصة بواسطة الاغتيالات السياسية التي استثمر فيها من بقي خارج الترويكا ونجح في تخريب التحالف الذي لم يقم لاحقا. وتتوزع مكوناته الاتهام بالفشل حتى الآن. وقال أعداء مثل هذه التحالفات إنه تحالف ضد الطبيعة، فاللقاء مع الإسلاميين غير ممكن. وكان ذلك بابا لعودة النظام بواسطة حزب النداء ورئيسه الباجي.

قبل الباجي مرغما الحكم مع الإسلاميين وثبت بهم حكمه لخمس سنوات في مصالحة مغشوشة فيما ظل الخلاف قائما يتعمق بين الإسلاميين واليسار الخاسر في كل صندوق انتخابي. حتى انتخابات 2019 التي أعادت تقديم فرقاء مختلفين في مقدمتهم الإسلاميين (حزب النهضة) وحزب التيار وحزب حركة الشعب القومية. وأمِلنا ثانية أن تتم مصالحة أعمق وأكثر وضوحا واستبشرنا بمفاوضات تشكيل حكومة بين هؤلاء ولكن انكسر الأمل ليلة 22 -12. والى الأبد.

من المسؤول عن الانكسار؟

حتى الآن نشاهد رمي كرة اللهب بين المختلفين كل يرمي مسؤولية الفشل على الطرف المقابل، لكن ذلك لن يخفي عناصر بارزة في الصورة. لقد قدم حزب النهضة تنازلات مهمة كان يمكن البناء عليها؛ أهمها رئيس حكومة من خارج الحزب، وكان ذلك شرطا من شروط الفرقاء عليه. وقد قُبل الرجل كمستقل ودخل الجميع في تفاوض طويل معه؛ قُدمت فيه شروط أخرى، كتحييد وزارات السيادة الأربع، وقُبلت بقية الشروط، مثل عدد الحقائب لكل فريق. وطُرح ميثاق سياسي للحكم وقُبل من الجميع، وأُعلنت نوايا الدخول في الحكم. وانتظر الناس صدور إعلان تشكيل الحكومة حتى اللحظة الأخيرة، وفجأة انهار كل شيء، فمن اتخذ قرار إفشال الحكومة؟

 

قدم حزب النهضة تنازلات مهمة كان يمكن البناء عليها؛ أهمها رئيس حكومة من خارج الحزب، وكان ذلك شرطا من شروط الفرقاء عليه. وقد قُبل الرجل كمستقل ودخل الجميع في تفاوض طويل معه؛ قُدمت فيه شروط أخرى

لا يمكننا إلا أن نستنتج أن هناك طرفا يقبع خارج طاولة التفاوض ألقى بثقله السياسي ليفشل بناء حكومة تكون عنوانا للمصالحة المأمولة من التونسيين؛ الذين يعيشون خارج الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين أو اليسار أو تيار الحداثة، وينتظرون حكومة تيسر لهم سبل الحياة الضنك.

إني أبني التحليل على اتهام واضح.. لقد خرب هذا الاحتمال كل من يعرف فائدة مصالحة تاريخية بين الإسلاميين، وبين خصومهم في الوطن على بناء ديمقراطية مستقرة. إنه نفس الجهة التي دعمت وأسندت الانقلاب على هذا الاحتمال في مصر ومنعت تطور مصالحات سياسية، وهو نفس الطرف الذي يخرب الثورة الليبيبة ويمنع الليبيين من التوحد حول مصلحة وطنهم الممزق، وهو نفسه الذي موّل الثورة المضادة في تونس وخرب كل احتمالات النجاح فيها بالاغتيالات السياسية وموجة الإضرابات الكاسرة لكل نهوض اقتصادي واجتماعي. لكن هل يكفي إلقاء اللوم على جهة خارجية؟

لم يمكن لهذه الجهة أن تفعل في الداخل لو لم تجد سندها ووسيلتها الداخلية.. في الداخل العربي عامة، وفي تونس كنموذج يوجد من لا يريد لهذه المصالحة أن تتم. هذا الطرف الداخلي كان حاضرا خلف مائدة التفاوض حول الحكومة، وهو من كان يخرب كل احتمالات الاتفاق. كيف ذلك؟ ولماذا؟

 

خرب هذا الاحتمال كل من يعرف فائدة مصالحة تاريخية بين الإسلاميين، وبين خصومهم في الوطن على بناء ديمقراطية مستقرة. إنه نفس الجهة التي دعمت وأسندت الانقلاب على هذا الاحتمال في مصر، وهو نفس الطرف الذي يخرب الثورة الليبيبة ويمنع، وهو نفسه الذي موّل الثورة المضادة في تونس

لنعرف النتيجة الافتراضية لهذه المصالحة

إن النتيجة الثابتة لهذه الاتفاقات هي فسح مجالات عمل سياسي دائمة للإسلاميين، أي إشراكهم بشكل لا رجعة فيه في إدارة بلدانهم (بلدهم). وغير مهم هنا حجم مشاركتهم، ولكن ستكون حقا ثابتا وبالصندوق الانتخابي، في كل موسم انتخابي يتسع مرة ويضيق أخرى بحسب ما يحكم الشعب على أدائهم، ولكنه إنهاء تام لفكرة وممارسات استئصالهم كجسم غريب عن المشاركة السياسية.. هنا يتضح الخاسر من الصندوق ويسفر عن وجهه كاملا.

كل من نافس الإسلاميين وخسر أمامهم في الصناديق متضرر من مثل هذه المصالحة، ولذلك عمل ويعمل كل ما بوسعه لقطع الطريق على كل مصالحة. فبقاء الإسلاميين في مشهد سياسي تعددي ولو نسبي يقضي على هؤلاء الخاسرين. وكانت حكومة الحبيب الجملي أمام هذا الاحتمال وتعمل عليه، لذلك صار إفشالها هدفا أولا بقطع النظر على أثر ذلك على الشعب الصابر.

الخاسر من الانتخابات هو الخاسر من المصالحات التي تمكن الإسلاميين من حق البقاء والمشاركة، أي الخاسر من الديمقراطية، وقد انكشف وانكشفت ارتباطاته مع الخارج المعادي للديمقراطية في تونس وفي كل مكان.

اللقاء الموضوعي بين أعداء الديمقراطية من العرب، ونسمي ممالك النفط والمستعمر القديم، فرنسا خاصة، واليسار الاستئصالي بشقه القومي، هو من أعاق تشكيل حكومة مصالحة في تونس؛ لأنه يعرف خساراته أمام ديمقراطية يشارك فيها إسلاميون ولو بالحد الأدنى. ولكن يبقى سؤال معلق: هل أحسن الإسلاميون إدارة التفاوض مع شركاء محتملين؟

ننتظر أن يتكلم شاهدان عدلان عن كواليس التفاوض، فقد تطوع مثقفان لتقريب وجهات النظر بين المتفاوضين، واستُمع لهما وتابع الناس عملهما بدقة، ولكن خيبتهما أُعلنت وقد أفصحا عن الكثير. لكن هذه الشهادة لا تخفي خطأ جسيما وقع فيه الإسلاميون المفاوضون من موقع ذلة.

 

حزب النهضة يفرط في تخويف نفسه من عدو اختلقه، ولا تمكن النجاة منه إلا بالبقاء داخل أجهزة الدولة

لقد دخل حزب النهضة للتفاوض ضعيفا، وأول ضعفه كان أن سلم لخصومه بثورية زعموها، وفاوضهم على أنه ممثل الرجعية الفاشلة في الحكم رغم نتيجته في الصندوق. لقد استبطن هزيمته قبل الجلوس إلى مائدة التفاوض، وكان ذلك مدخلا لتصعيد سقوف المطالب ومدخلا لتنازلات لم تنته ولن تنتهي أبدا، فهل كان يمكنه خلاف ذلك؟ يوجد خطأ آخر يحكم تفكير حزب النهضة سابق على التفاوض الذليل.. إن حزب النهضة يفرط في تخويف نفسه من عدو اختلقه، ولا تمكن النجاة منه إلا بالبقاء داخل أجهزة الدولة.

لقد دخل الحزب باحثا عن حماية من خصومه لدى خصومه فلم يحموه، بل حشروه ببراعة في زاوية العجز. كان عليه أن يقيم عليهم الحجة ببرنامج سياسي معلن يقدمه للشعب أولا، ويشهده على نواياه وبرامجه، ويفاوض كحزب منتصر وله شرعية الصندوق. وكان يمكنه نقل التفاوض على الهواء ليعرف الناس ما خفي أو ما أُخفي، فلم يفعل فخسر. نتحدث هنا عن احتمال مهدر ليس على الحزب وحده أو على الشعب في مرحلة من مراحل حياته، بل على المصالحة التاريخية المنتظرة. تلك المصالحة هي مفتاح الديمقراطية في البلدان العربية، وستظل مطلبا معلقا فوق رؤوس الجميع.. سنكتب أنها مطلب مؤجل حتى لا نصاب بالاكتئاب.

التعليقات (0)