كتاب عربي 21

حقوق العودة

جوزيف مسعد
1300x600
1300x600
تتجلى أهم المفارقات التي تعبر عنها سمات الحركة الصهيونية ودولة إسرائ؛يل في الموقع المركزي الذي يشغله مفهوم العودة في أيديولوجيتهما وسياساتهما. ففي واقع الأمر، يتمحور المشروع الاستعماري الصهيوني على الزعم بأن اليهود الأوروبيين المعاصرين هم أحفاد العبرانيين الفلسطينيين القدماء، وبأن مشروعه لاستعمار فلسطين لم يكن سوى استراتيجيته لــ"إعادة" اليهود إلى أرض أجدادهم المزعومين بعد غياب طال لألفي عام. وما انفك مفهوم "العودة" يمثل حجر الأساس للحركة الصهيونية ودولة إسرائيل.


لقد أصر مؤسسو المستعمرة الاستيطانية في بيان "إعلان إقامة دولة إسرائيل" الذي أصدروه في أيار/ مايو 1948؛ على أن "الشعب (اليهودي)، بعد أن تم نفيه قصرا عن أرضه، حافظ على إيمانه بهذه الأرض طيلة فترة شتاته، ولم يتوقف أبدا عن الصلاة والأمل في العودة إليها واستعادة حريته السياسية فيها... وقد عادوا في العقود الأخيرة مع جماهيرهم... وستكون أبواب دولة إسرائيل مفتوحة للهجرة اليهودية وللم شمل المنفيين". وقد ضمنت إسرائيل هذا الالتزام عبر استصدارها ما أسمته بــ"قانون العودة" في تموز/ يوليو 1950، لتأمين حق كل يهودي حول العالم "في المجيء إلى هذه البلد كمهاجر".


وقد قامت المليشيات الصهيونية في تلك الأثناء بتنفيذ الخطط الصهيونية بتهجير الشعب الفلسطيني من وطنه بداية من 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947. فعند إعلان إقامة دولة إسرائيل في 14 أيار/ مايو 1948، كان الصهاينة قد طردوا 400 ألف فلسطيني، وبحلول نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 1948، كانوا قد طَردوا 400 ألف فلسطيني آخرين انضموا إلى جحافل المُهجَّرين الذين طُردوا من قبلهم.


وقد أجبر ذلك الأمم المتحدة على إصدار القرار 194 في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1948، وهو قرار أعادته وأكدت عليه الأمم المتحدة 135 مرة منذ ذلك التاريخ. وقد نص القرار على أنه "يجب السماح للاجئين الذين يرغبون في العودة إلى ديارهم والعيش في سلام مع جيرانهم بالقيام بذلك في أقرب وقت ممكن عمليا، وينبغي دفع تعويض عن ممتلكات من لا يرغب في العودة وعن فقدان أو تلف ممتلكاتهم، التي بموجب القانون الدولي أو الإنصاف، ينبغي على الحكومات والسلطات المسؤولة أن تدفعها". ويطالب القرار "لجنة التوفيق بتسهيل عودة اللاجئين وإعادتهم إلى وطنهم وإعادة تأهيلهم اقتصاديا واجتماعيا ودفع التعويضات لهم..".


وقد رفضت حكومة إسرائيل القرار 194 باستمرار وما زالت تنتهكه حتى اليوم. وفي محاولة منها لتحدي حق العودة للفلسطينيين، قامت إسرائيل باستصدار "قانون العودة" لليهود بعد سنة ونصف على إصدار الأمم المتحدة القرار 194.


لا تكمن المفارقة هنا في أن إسرائيل لا تؤمن بحق عودة اللاجئين إلى ديارهم، بل في أن إسرائيل تؤمن بحق اليهود، الذين تزعم بحسب خرافاتها الدينية والاستعمارية أنهم لاجئون من فلسطين عاشوا في المنفى لمدة ألفي عام، في "العودة"، بينما تنكر هذا الحق على الفلسطينيين الذين تقر بأنهم هُجّروا من فلسطين. وأساس هذا الفارق لا يكمن في أن إسرائيل تؤمن بأن اليهود قد نُفوا بينما الفلسطينيون لم ينفوا، أو أن الفلسطينيين لم يأتوا من فلسطين كما تزعم أن اليهود أيضا أتوا منها، بل إن لب الموضوع بالنسبة إلى إسرائيل هو فهمها الكامل بأن ضمان القانون الدولي والأمم المتحدة لحق العودة للفلسطينيين الذين هُجّروا ينفي "حق العودة" التي ضمنته إسرائيل لليهود من جميع أنحاء العالم، أي ينفي حق اليهود في استعمار وطن الفلسطينيين.


وحيث أن مؤسس الصهيونية، ثيودور هرتسل، لم يذكر "عودة" اليهود في كتيبه "دولة اليهود" الصادر عام 1896، فقد شدد عليه في روايته الصهيونية "الأرض القديمة-الجديدة" الصادرة عام 1902، وزاوجه دون تردد بالاستعمار. فقد كان مفهوم العودة هذا على أنه استعمار وعلى أنه طرد السكان الأصليين جليا ومعلنا عند الصهاينة الأوائل الذين لم يخفوه البتة، لا سيما أنهم كانوا يكتبون في أوج فترة الاستعمار الأوروبي.


ففي رواية هرتسل، تعبر شخصية روائية من أوروبا الشرقية عن الفكرة لأول مرة: "الدكتور فايس، وهو حاخام بسيط من بلدة ريفية من منطقة مورافيا" يعلن بأن "هنالك حركة جديدة برزت في الأعوام الأخيرة تُسمى الصهيونية، هدفها هو حل المسألة اليهودية عن طريق الاستعمار على نطاق واسع. كل الذين لم يعودوا يحتملون وضعهم الحالي سيعودون إلى وطننا القديم، إلى فلسطين".


وقد قام فلاديمير جابوتنسكي، مؤسس الحركة الصهيونية التصحيحية، أيضا بمزواجة مفهوم العودة بالاستعمار في بيانه "الجدار الحديدي" الصادر عام 1923: "الآن وبعد أن اعترف العالم المتحضر كله بأن لدى اليهود الحق بالعودة إلى فلسطين، وهو ما يعني أن اليهود هم "مواطنون" و"سكان" في فلسطين، وإن كانوا قد طردوا منها، ويجب أن تكون عودتهم عملية طويلة الأمد. فمن الخطأ المحاججة في هذه الأثناء بأن لدى السكان المحليين الحق برفض عودتهم... حيث أن فلسطين تتكون من مجموعتين قوميتين: المجموعة المحلية ومَن تم طردهم، والمجموعة الثانية هي الأكبر".


وقد فهم جابوتنسكي، شأنه شأن هرتسل، بأن "عودة" اليهود المزعومة إلى فلسطين ليست في الواقع سوى الاستعمار: "فلا يمكن أن تقوم اتفاقية طوعية بيننا وبين عرب فلسطين... ومن المستحيل الحصول على الموافقة الطوعية لعرب فلسطين بتحويل "فلسطي" من بلد عربي إلى بلد بأغلبية يهودية...


وأقترح على قرّائي مراجعة معرفتهم بتاريخ الاستعمار في بلدان أخرى وكل السوابق التي يعرفونها، ليتيقنوا بأنه ليس ثمة ولو حالة واحدة فريدة تم فيها استعمار بلد بموافقة شعبه الأصلي. فليس ثمة سابقة من هذا النوع. فالسكان الأصليون، متحضرون كانوا أم غير متحضرين، قد قاموا دوما بمقاومة المستعمِرين (بكسر الميم)، بغض النظر إن كان المستعمِرون (بكسر الميم) متحضرين أو متوحشين".


بخلاف الفلسطينيين الذين كفل القانون الدولي والأمم المتحدة حقهم في العودة، فليس ثمة وثائق أو قوانين دولية، ولا قرارات صادرة عن الأمم المتحدة تكفل "حق العودة" لليهود إلى فلسطين أو إسرائيل. فلا وعد بلفور الصادر عام 1917 ولا قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947؛ تضمنا حق عودة لليهود إلى فلسطين. فقط هي المزاعم الأيديولوجية الإسرائيلية والقانون الإسرائيلي ما يمنحهم هذا الحق.


هذا هو السبب الذي يجعل الحقّين غير متطابقين في الحجج الإسرائيلية، كما هو الحال في القانون الدولي. فلأن حق اليهود الأوروبيين في "العودة" إلى "وطنهم" المزعوم لا يمكن تحقيقه إلا من خلال استعمار وطن الفلسطينيين، ولأن استعمار وطن الفلسطينيين لا يمكن تحقيقه إلا من خلال طرد الشعب الفلسطيني الأصلي ومنعه من العودة إليه، يقوم حق العودة الفلسطيني بتقويض المشروع الصهيوني برمته. فممارسة حق الفلسطينيين في العودة، المعترف به دوليا، ينفي "حق العودة" اليهودي لاستعمار فلسطين ويلغي "قانون العودة" الإسرائيلي. تعي إسرائيل تماما أن عودة اللاجئين الفلسطينيين وذريتهم لا تعني سوى إزالة آثار الاستعمار وتقويض الامتياز العنصري الخاص الذي تمنحه إسرائيل لليهود.


يجب التنويه هنا بأن فهم القانون الدولي لحقوق اللاجئين يشمل عودة ذرياتهم أيضا، وهو ما تعارضه إسرائيل والقوى الداعمة لها وتزعم عدم شرعيته. وللمفارقة، يقوم مفهوم "عودة" اليهود الإسرائيلي، بحسب التعديلات التي أضيفت على "قانون العودة" الإسرائيلي عام 1970، بالاعتراف لا بحق من تُقِر بأنهم يهود في العودة فحسب، بل أيضا بحق عودة غير اليهود في حال كانوا "أبناء لأم أو أب يهودي... وأحفادا لجدة أو لجد يهودي، وزوجات وأزواج شخص يهودي، وزوجات وأزواج أبناء شخص يهودي، وزوجات وأزواج أحفاد شخص يهودي، باستثناء الأشخاص الذين كانوا يهودا وقاموا بإرادتهم باعتناق دين آخر". وتستقيم هذه التعديلات مع المفهوم الأصلي والدائم للصهيونية بأن الحق الحصري لليهود بــ"العودة" يعني حق اليهود باستعمار فلسطين.


ولكن القانون الدولي والأمم المتحدة لا يشاركان إسرائيل ضماناتها هذه. فبالإضافة إلى التأكيدات السنوية المتعاقبة بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة التي تصدرها الأمم المتحدة، فقد تم التأكيد على حق عودة اللاجئين نظريا وعمليا بعد انتهاء حرب البوسنة. فقد عاد أكثر من نصف مليون لاجئ من خارج وداخل البوسنة بمساعدة دولية، بعد توقيع اتفاق دايتون عام 1995، إلى ديارهم في مناطق من البوسنة مسيطر عليها سياسيا وديموغرافيا من سكان ينتمون إلى إثنية أخرى.


وكما تشير حالة البوسنة، فقد تفوق حق عودة اللاجئين على سياسات الفصل العنصري للسلطات المحلية التي سعت إلى السيطرة على أراضي اللاجئين وعلى جلب سكان من إثنيتها ليحلوا مكانهم. وقد تم التطبيق الدولي لحق اللاجئين البوسنيين في العودة بناء على حق اللاجئين في العودة المكفول في القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ولم تحظ سياسات الفصل العنصري بمكانة قانونية أو أخلاقية على الإطلاق عند تطبيق حق عودتهم. وهذا ما عليه الوضع اليوم في حالة اللاجئين الصوماليين وحقهم في العودة، ومعهم ذريتهم إلى ديارهم.


فهذا هو الحق المضمون التي تسعى حكومة دونالد ترامب إلى تقويضه عبر محاولاتها الدؤوبة لتدمير وكالة الغوث وإعادة تعريف من ينطبق عليه تعبير لاجئ ومن لا ينطبق عليه التعريف. وحيث أن عدد الفلسطينيين اليوم في حدود فلسطين التاريخية المحتلة إسرائيليا بمجملها يفوق عدد اليهود، فقد كانت غاية إصدار إسرائيل لقانون الدولة الوطنية في تموز/ يوليو 2018 هي ضمان الفوقية العرقية اليهودية في إسرائيل، بعد أن فشلت الدولة في تأمين أكثرية يهودية سكانية فيها.


لم يكن المفهوم الإسرائيلي للحقوق أبدا مفهوما عموميا، بل كان ولمّا يزل مفهوما خصوصيا، مفهوما محصورا باليهود لا غير. وهذه هي الخصوصية التي تسعى إسرائيل لجعلها متوافقة مع المفهوم العمومي للقانون الدولي. فإذا تم تقويض الأساس العمومي لحق الفلسطينيين في العودة القائم على القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة لصالح الخصوصية الإسرائيلية بحق عودة حصري يسري على اليهود فقط تقوم الولايات المتحدة وإسرائيل بفرضه كأساس جديد للقانون الدولي، فسيتم تحييد خطر التهديد الذي يشكله حق العودة الفلسطيني، وسيتم ضمان حق اليهود في استعمار فلسطين.


ويشكل قرار حكومة ترامب الأخير باعتبار إقامة المستعمرات الاستيطانية الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية وهضبة الجولان متوافقا مع القانون الدولي ولا ينتهكه النتيجةَ المنطقية لـجهود ترامب وإسرائيل في إنكار حق العودة الفلسطيني، وإعادة تعريف من هو اللاجئ، ومستمدا منها.


لقد قام المشروع الصهيوني لاستعمار فلسطين على "الحق" الحصري والخصوصي لليهود بــ"العودة" على أنه حق باستعمار فلسطين وبطرد شعبها، أي باختصار فإن مبرر هذا الحق قد قام على مبدأ عنصري وتفوقي من الأساس. لذلك، ينبغي على النضال الفلسطيني اليوم ألا يتراجع عن المطالبة بتنفيذ حق الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، حيث أن هذا الحق هو المفتاح القانوني لتقويض الغزو الصهيوني لفلسطين برمته. وهذا ما تعيه إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة جيدا، ولذلك فهم لا يألون جهدا في محاربته بكل ما يملكون من قوة بغية تقويضه.
التعليقات (2)
محمد قذيفه
الأربعاء، 11-12-2019 10:53 ص
تشريح جيد لواقع مر زيفه الصهاينة وأكبرصهيوني هو ترامب الذي باع ضميره للشيطان من اجل دعم اليهود له ولكن قانون الله لا يعرفه (لأغلبن أنا ورسلي )
باسل ابوطوق
الأربعاء، 11-12-2019 09:06 ص
مبدع دائما في جميع ما تكتب