بورتريه

الشعراوي: مفسر القرآن.. لم يهادن السلطة ولم يعادها (بورتريه)

الشعرواي بورتريه
الشعرواي بورتريه

لم يكن مهادنا للسلطة بمعنى الموالاة التامة، ولم يعادها بمفهوم المعارضة، حافظ على مسافة معها، دون أن يقترب كثيرا فيخسر شعبيته، ودون أن يبتعد أكثر فيحترق بنار البعد.

كان نموذجا للعالم الذي يبسط النص الديني، ويقربه من فهم العامة، مطعما دروسه الدينية بلمسة من اللغة العامية، مع الاحتفاظ بمقامه ومكانته وهيئته العلمية.

كان له بالغ الأثر في تقريب الناس من القرآن الكريم وتبسيط تفسيره من خلال تقديم "الدروس المسجدية"، وهي المهمة التي تميز بها في العالم العربي والعالم الإسلامي.

بين فترة وأخرى كان هدفا مباشرا لهجوم مثقفين وكتاب وإعلاميين مصريين، ولم تتوقف الهجمات الموسمية ضده، واستمرت حتى بعد وفاته، وحتى اليوم مع جيل الألفية الجديدة.

 

اقرأ أيضا: ماذا وراء الهجوم على الشيخ الشعراوي واتهامه بالتطرف؟

ويقول عارفون بسيرة الرجل أن الذين يشنون ضده حملة ممنهجة ويصفونه بـ"التشدد والإرهاب" يحاولون من خلال استهدافه إسقاط منهجه في الاعتدال.

لم يقل الشيخ محمد متولي الشعراوي، المولود عام 1911 بمحافظة الدقهلية بمصر، في أي يوم من الأيام بأنه مفتي، وكان يعتبر تفسيره للقرآن الكريم اجتهادا، وفهما خاصا للنص القرآني لا يلزم به أحدا.

رحلته مع القرآن الكريم كانت في فترة مبكرة جدا من حياته ففي الحادية عشرة من عمره حفظ القرآن الكريم، وأظهر نبوغا منذ الصغر في حفظه للشعر والمأثور من القول والحكم، فدخل على إثرها المعهد الثانوي الأزهري، وحظي بمكانة خاصة بين زملائه، فاختاروه رئيسا لاتحاد الطلبة، ورئيسا لجمعية الأدباء بالزقازيق، وكان معه في ذلك الوقت خالد محمد خالد صاحب كتاب "رجال حول الرسول".

كانت نقطة التحول الرئيسة في حياة الشعراوي، عندما أراد والده إلحاقه بالأزهر بالقاهرة، وكان الشعراوي يود أن يبقى مع إخوته لزراعة الأرض، ولكن إصرار الوالد دفعه لاصطحابه إلى القاهرة، ودفع المصروفات وتجهيز المكان للسكن.

التحق الشعراوي بكلية اللغة العربية عام 1937، وانشغل بالحركة الوطنية والحركة الأزهرية، لمقاومة الاحتلال الإنكليزي، فكان يتوجه وزملاءه إلى ساحات الأزهر وأروقته، ويلقي الخطب الحماسية في الطلبة ما عرضه للاعتقال أكثر من مرة .

تخرج من الجامعة عام 1940، وبعد أن حصل على العالمية مع إجازة التدريس عام 1943، عين في المعهد الديني بطنطا، ثم انتقل بعد ذلك إلى المعهد الديني بالزقازيق ثم المعهد الديني بالإسكندرية، وبعد فترة خبرة مناسبة انتقل إلى العمل في المملكة العربية السعودية عام 1950 أستاذا للشريعة في جامعة "أم القرى".

وعلى إثر الخلاف الذي نشب بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وبين الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز، غادر الشعراوي السعودية عام 1963 عائدا إلى القاهرة، فعين مديرا لمكتب شيخ الأزهر.

لكن الشعراوي ما لبث بعد قليل أن غادر مصر متجها إلى الجزائر رئيسا لبعثة الأزهر هناك، ومكث بالجزائر نحو سبع سنوات قضاها في التدريس، وأثناء وجوده في الجزائر حدثت نكسة حزيران/ يونيو 1967، فعاد إلى القاهرة من جديد وعين مديرا لأوقاف محافظة الغربية، ثم وكيلا للدعوة والفكر، ثم وكيلا للأزهر ثم عاد ثانية إلى السعودية، حيث قام بالتدريس في جامعة الملك عبد العزيز.

 

اقرأ أيضا: الشعراوي فخر لأم الدنيا والعالم الإسلامي

في تلك الفترة رافقت مسيرة الشعراوي حادثة مثيرة للغبار والتساؤل فبعد نكسة حزيران/ يونيو وحينما كان متواجدا في الجزائر، سجد الشعراوي شكرا لله بعد هزيمة الجيش المصري في الحرب، والتزم الشيخ الصمت وقتها طويلا.

 

لكنه برر ما قام به بأن هذه السجدة شكرا لله حتى لا يقال: إن المصريين انتصروا في الحرب وهم في أحضان الشيوعية، ولو فاز المصريون وقتها كان سيصيب المسلمين فتنة في دينهم فنزهنا الله عنها، وسجد أيضا بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، ولكن بسبب استعانة المصريين بـ"الله أكبر" و"نحن بعيد عن الشيوعية". بحسب قوله.

ودخل عام 1976 وزيرا للأوقاف وشؤون الأزهر في حكومة ممدوح سالم التي بقي فيها حتى عام 1978.

وكان الشعراوي صاحب فكرة إنشاء أول بنك إسلامي في مصر وهو "بنك فيصل" رغم أن هذا الإجراء كان من اختصاص وزير الاقتصاد أو المالية الذي فوض الشعراوي، ووافقه مجلس الشعب على ذلك.

وتوالت المناصب التي تقلدها الشعراوي فيما بعد، فعين عضوا بمجمع البحوث الإسلامية، وأصبح عضوا بمجلس الشورى عام 1980، كما اختير عام 1987 عضوا بمجمع اللغة العربية (مجمع الخالدين).

وعرضت علية مشيخة الأزهر وأكثر من منصب في عدد من الدول الإسلامية لكنه رفضها جميعا وقرر التفرغ للدعوة الإسلامية.

حافظ الشعراوي على دروسه الدينية في المسجد والتي كانت تبث تلفزيونيا عقب صلاة الجمعة حتى رحيله  عام 1998 تاركا خلفة إرثا زاخرا من العلم والاجتهادات في تفسير القرآن الكريم التي لا تزال عالقة في عقول ملايين المصريين والعرب حتى الآن، والتي لا تزال تعرض حلقاتها حيث قدم خلالها التفسيرات القرآنية بمفاهيم ذات عمق كبير، يدركه البسيط والعالم على حد سواء.

واستعادت الهجمة والاتهامات الجديدة على الشعراوي، إلى الذاكرة هجمات تعرض لها خلال حياته وبعد مماته، إذ سبق لمفكرين ومثقفين معروفين في السبعينيات والثمانينيات أن هاجموه، مثل توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود.

ورغم أن علاقة السلطة آنذاك ببعض الدعاة وعلماء الدين كانت مشوبة بالتوتر والصراع، مثل محمد الغزالي وعبد الحميد كشك وأحمد المحلاوي، فإن الرئيس الراحل أنور السادات كان حريصا على استمالة الشعراوي وتقديمه للمجتمع كنموذج للشيخ المعتدل والمتصالح مع الأقليات غير المسلمة والرافض للعنف.

ومع منح الشعراوي منبرا في التلفزيون الرسمي لتقديم برنامجه الأسبوعي لتفسير القرآن الكريم في وقت الذروة بعد صلاة الجمعة، أصبح من أبرز رموز الدعوة في المجتمع المصري، بعد أن جمع في أسلوبه بين البساطة والعمق، متحدثا بلهجة الشارع ومترديا الملابس التقليدية البسيطة.

كما أن الدولة تغاضت سابقا عن كثير من سقطات الشعراوي وآرائه الخلافية، بل وأجبرت من حاول نقده من المثقفين على الاعتذار له.

ولم تمنع هذه الشعبية كتابا آخرين من معاودة الهجوم والطعن في الشعراوي خلال التسعينيات، مثل الصحفي إبراهيم عيسى في كتابه "أفكار مهددة بالقتل".

وبعد وفاته تشجع آخرون على استئناف الهجوم، مثل الصحفي شريف الشوباشي الذي ألقى باللائمة على الشعراوي في كتابه "لماذا تخلفنا؟ ولماذا تقدم الآخرون؟" المنشور عام 2013 عند تحليله لأسباب تخلف الأمة.

وجاءت الهجمة العشوائية الأخيرة على الشيخ الشعراوي تزامنا مع حملة شبه رسمية تحاول منذ عام 2011 "شيطنة الإسلاميين" ورموزهم، ووصفهم بـ"التطرف والتشدد".

وهو ما يؤكده أيمن الصياد المستشار السابق للرئيس المصري الراحل محمد مرسي بقوله: أن "معركة الشيخ الشعراوي رحمه الله وأرضاه بما قدم، معركة إلهاء إعلامي مفتعلة. نقطة ومن أول السطر".

ففيما يرى الصحفي المصري عبدالفتاح فايد أن : "إغراق المجتمع في معارك وهمية أشد خطرا وفتكا به من المشاريع الوهمية. المشاريع الوهمية دمرت الاقتصاد وأفقرت المصريين، والمعارك الوهمية تدمر الأخلاق وتفسد القيم وتنشر الجهل وتغيب الوعي وتشوه الجميع، الشعراوي متطرفا، آخر معارك إعلام الكفتة في مصر إعلام الجريمة والجنس والعنف والسقوط".

وعلى عكس الأنظمة السابقة، فأن السلطات المصرية الحالية التزمت الحياد في مسألة الجدل الدائر حول الشيخ الشعراوي، بدليل أن رموزا من الفريقين سواء المهاجمين أو المدافعين عنه، محسوبين بشكل أو بآخر على السلطة الحاكمة.

من جانبه يقول الكاتب والإعلامي هاني بشر : "بحكم الانتماء السياسي، فالشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي كان ليبراليا وفديا. وبحكم المهنة والرسالة كان عالما أزهريا. وبحكم النشاط العام كان عضوا في الإخوان في بداية عهدها وكتب البيان الأول للجماعة".

الهجمة الأخيرة على الشعراوي بدأت على يد "الدعاة الجدد" بعض الفنانين المحسوبة على الدولة، الذين يسعون إلى "خلخلة" و"تمييع" و نقض الثوابت الدينية المجمع عليها بين عموم المسلمين، مستغلين حالة العداء الشديد التي يناصبها النظام للاتجاه الإسلامي.

التعليقات (0)