كتب

كيف انهار الاتحاد السوفييتي؟ الأسباب البعيدة والمباشرة

الاتحاد السوفييتي كان يشكو من الجهود المضئية لتجاوز المتراكم من المهام وبسبب الحرب الباردة- (عربي21)
الاتحاد السوفييتي كان يشكو من الجهود المضئية لتجاوز المتراكم من المهام وبسبب الحرب الباردة- (عربي21)

الكتاب: الاتحاد السوفييتي من النشأة إلى السقوط
الكاتب: سيرغي قره- مورزا، ترجمة: د. شوكت يوسف
الناشر: الهيئة السورية العامة للكتاب- وزارة الثقافة، 2019.
511 صفحة من القطع الكبير.

منذ انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، تقود الولايات المتحدة الأمريكية النظام العالمي الجديد من دون منافس تقريبا، إلا من بقايا قوة روسية ما زالت تدافع عن بقايا نفوذ تقليدية.

ويجمع الدارسون للتاريخ على أن الاتحاد السوفييتي الذي عمر لعقود طويلة، وخاض معارك وجود غير تقليدية مع المعسكر الرأسمالي الغربي، مثل واحدا من أهم عوامل كبح جماح الظلم والاستبداد الرأسمالي في العالم، وكان داعما لحركات التحرر في العالم عامة وفي المنطقة العربية تحديدا، وإن كان دعما لحسابات تبين لاحقا أنها تأتي في سياق صراع دولي على اكتساب مواقع النفوذ ليس إلا.

ومع ذلك خسرت معارك التحرر الوطني في مختلف أنحاء المعمورة الكثير بسبب سقوط الاتحاد السوفييتي، ليس لأنها فقدت نصيرا مهما في مواجهة محاولات الهيمنة الدولية فحسب، وإنما لأن استفراد قوة واحدة بقيادة العالم، قد أفقد النظام العالمي واحدة من أهم شروط التوازن المطلوبة دوليا.

الباحث السياسي التونسي توفيق المديني، يعيد تقليب أوراق الاتحاد السوفييتي نشأة وتطورا وسقوطا وتداعيات، من خلال قراءة خاصة لـ "عربي21" لكتاب صادر مؤخرا عن وزارة الثقافة السورية بعنوان "الاتحاد السوفييتي من النشأة إلى السقوط".   

عوامل أخرى أسهمت في انهيار الاتحاد السوفييتي

"المنشقون"

 

تيار نشأ في ستينيات القرن العشرين متخذا معنى ضبابيا، وفي السبعينيات بات ظاهرة هامة في الحياة الاجتماعية للاتحاد السوفييتي. تألف هذا التيار بداية من جماعات من الناشطين المناهضين للمشروع السوفييتي من دون إطارات تنظيمية واضحة. ومع مرور الوقت اتخذت هذه الجماعات أشكالا تنظيمية، ونشأت فيما بينها صلات، ثم أمنت تمويلاً لأنشطتها وقاعدة لإصدار وتوزيع أدبياتها.

يقول الباحث مورزا بصدد المنشقين: "تتمثل الحقيقة الهامة بهذا الخصوص، والتي غالبًا ما يتم إغفالها، في أنّ المنشقين عملوا بالتنسيق والتناغم مع الآلة الدعائية للغرب. وعلى هذا الأساس من الصعب تقدير مدى تأثير هذه الحرب النفسية الضارية. فلولا مشاركة المنشقين عندنا في داخل المجتمع السوفييتي في هذه الجوقة لفقدت الأصوات الآتية من بعيد الجزء الأعظم من قوتها. لقد شكل المنشقون معًا مع "صوت أمريكا" تأثيرًا تضامنيًا هائلاً لا يمكن تقدير قوته حسب المعايير الكمية لعناصره المنفردة"، (ص 244 من الكتاب).

كان نشاط المنشقين فعالاً لأنّهم كانوا مشاركين في منظومة مناقشة القضايا الاجتماعية والوطنية العامة التي عُدَّتْ حرفيًا مسؤولية عامة تخص جميع الناس على مستوى الاتحاد السوفييتي.

فساد المكتب السياسي 

يعتبر فساد المكتب السياسي السوفييتي سبباً من أسباب سقوطه، حيث كان الاتحاد السوفييتي في العشرينات من القرن العشرين بقيادة فلاديمير لينين، وليون تروسكي، وجوزيف ستألين، وكانت لديهم العديد من السلبيات والعيوب في قياداتهم، ولكنهم كانوا مُندفعين بالنقاء الأيديولوجي المرتبط بالماركسية. ومنذ عام 1963م بدأ المكتب السياسي (البوليتبورو( the Politburo السوفييتي بالانحراف عن سياسات لينين مع اتباع منهجٍ متحفّظ نوعاً ما؛ حيث شهدت الستينيات والسبعينيات زيادة ثروات نخبة الحزب، وتشكل الطبقة البرجوازية "النومونكلاتورا".

الحرب الباردة والعدوان الغربي 

تسبّبت الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفييتي؛ حيث كانت هذه الحرب بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وكانت مصدر قلق كبير على الصعيد الدولي، وبدأت استعدادات الولايات المتّحدة لحرب من خلال تطوير أسلحة للانتقام، وكانت تُسمّى هذه الأسلحة بالثالوث الاستراتيجي Strategic Triad، والتي شملت قاذفات قنابل بعيدة المدى، وغواصات حربية، وصواريخ أرضية، وأدّى هذا إلى نشوء ما يُدعى بـ "سباق التسلح النووي"، وذلك لأنّ الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة قامتا بتخزين أكبر عدد ممكن من الأسلحة النوويّة. 

منذ الستينيات، زادت الولايات المتحدة وتيرة الحرب الباردة إلى أعلى مستوياتها، ودخل رونالد ريغن البيت الأبيض كمُعارض للاتحاد السوفييتي عام 1981م، ووصف الاتحاد بالإمبراطورية الشريرة، وأدّت قيادة ريغن إلى زيادة الإنفاق العسكري الأمريكي؛ حيث دعم مبادرة الدفاع الأمريكي "سدي"Strategic Defense Initiative (SDI)، التي قامت بتدمير القوة النووية السوفييتية من خلال تدمير الصواريخ السوفيتية، كما دمّر ريغن الاقتصاد السوفييتي من خلال عزل الاتحاد السوفييتي عن بقية الاقتصاد العالمي، وخفض أسعار النفط إلى أدنى مستوى، وهذه الأعمال كانت سبباً في انهيار الاتحاد السوفيتي.

البريسترويكا ومصرع الاتحاد السوفييتي 

شكلت حركة غورباتشوف باتجاه الشيوعية الأوروبية الخطوة الأولى على طريق تدمير الاتحاد السوفييتي. لكن كانت حركة القيادة الحزبية السوفييتية هذه قبل عام 1985 سرية، ولم تحصل حينما جرت، تحت غطاء سلطة السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي، تصفية كبرى للكوادر وتغيير وجهة كل الماكينة الأيديولوجية.

نتوقف للنظر باختصار في كيفية تقييم السكان للبريسترويكا - تلك الثورة التي انتهت بمصرع الاتحاد السوفييتي وتغيير النظام الاجتماعي السوفييتي:

يقول الباحث مورزا: "بهذا الخصوص أجريت استطلاعات الرأي العام بشكل منتظم منذ عام 1989، وبدءاً من عام 2000 جرى قياس الرأي العام عبر استفتاءات كبيرة كل خمسة أعوام بمناسبة الذكرى الدورية لل بريسترويكا. وعلى هذا الأساس توفرت مادة بحثية تجريبية ضخمة.

لكن يجب أن نضع في الحسبان أنه، مع أن معاداة السوفييت تمثل أيديولوجيا رسمية للفريق المنتصر في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، والذي يشكل اليوم قلة مسيطرة، لكن لم يجر علناً قياس مدى تأييد المجتمع للقيم الجديدة المناهضة للمشروع السوفييتي.ونظراً لأن وسائط الأعلام الجماهيري تعمل على خدمة القلة الحاكمة وتحرف الواقع، يترتب علينا الاستناد على نتائج استطلاعات مختلفة متناقضة منشورة في أدبيات خاصة بهذا الشأن(ص 305 من الكتاب).

عبر منظور هذه البريسترويكا أنفسهم عن هذا الأمر بصورة مبهمة. فجاء في التقرير الكبير للصندوق (غورباتشوف) بعنوان (بريسترويكا ـ عشرون سنة خلت) (2005) التالي: (70 إلى 80 % من الروس يؤيدون إلى هذه الدرجة أو تلك، القيم الديمقراطية الأساسية التي حملتها بريسترويكا إلى حياتنا).

إن تسمية البريسترويكا "ثورة ملايين" شيء شبيه ببدع جورج أورويل. وجاء في تقرير "صندوق غورباتشوف" في الذكرى الدورية لإعلان البريسترويكا (2005) حول "مجموعة دعم" البريسترويكا:

"تعول القيادة الجديدة على الدعم الثابت من قبل مجموعتين من البيروقراطية الوطنية. أولهما ـ المفكرون الحزبيون الذين تشكلت آراؤهم تحت تأثير قوي لمرحلة ذوبان الجليد الخروشوفية. فهم، على صعيد الأيديولوجية، سعوا إلى اشتراكية بوجه إنساني ـ المقولة الموحية بأفكار الجمع بين الرأسمالية والاشتراكية. عنت البريسترويكا لهم فرصة لمتابعة التغيرات الإيجابية المبدوءة خلال سني حكم نيكيتاخروشوف والمنقطعة بتكرار الستالينية في مرحلة الركود البريجنيفية. المجموعة الثانية وهي التكنوقراطيون الذين يديرون الاقتصاد السوفييتي ويقيمون بتبصر واع وضعه الفعلي".

ويضيف مورزا قائلاً: "بالنسبة للجماهير الشعبية، يبدو أنه لم تعطى غورباتشوف الفرصة لغرس اشتراكية بوجه إنساني. يشتكي واضعوا التقرير من أن "مخططي الإصلاح والنخبة المفكرة في الاتحاد السوفييتي لم يحسبوا حساباً لبروز ظواهر التعصب القومي وما يتلو ذلك من انشقاق وعداوة. كما هو معلوم، كانت الفوضوية الشعبية الروسية دائماً الوجه الأخر للدولتية الشعبية. فأججت الحماس التمردي ضد الدولة عن سابق قصد بعض المجموعات النخبوية". قالوا الفوضوية الشعبية أوصلت الأمر إلى حالة حرجة! ليس لدى أي جماعة فوضوية في العالم موقف أكثر مناهضة للدولة من خطب غورباتشوف"، (ص308 من الكتاب).

بهذا الصدد ندد واضعو التقرير بثقافة روسيا القديمة

"لعبت دوراً سلبياً في مصير البريسترويكا والبلاد كليشيهات سوسيو ـ ثقافية جماهيرية تضرب جذورها في عمق القرون الخوالي). نعم، لقد انقذت هذه الدعائم الثقافية التي تضرب بجذورها في عمق القرون الخوالي روسيا الاتحادية من التمزق! لولا وجود هذه الدعائم لمزقوها إلى 150 دولة طبيعية، كما خطط لذلك اندري ساخاروف، ولتركونا من دون رأس نووي كما حلم بذلك غورباتشوف وشيفارنادزه"(ص 308 من الكتاب).

إليكم أيضاً اقتباساً من تقرير زاسلافسكايا يصف قواعد الوعي الجماهيري
 
في نهاية أيلول/ سبتمبر 1990 أجرت مؤسسة VCEOM الروسية استطلاعاً للرأي العام حول الحاجة التاريخية لثورة أكتوبر ونتائجها .... أتاح تحليل المعطيات المتحصلة رصد أربعة أنماط من المواقف السوسيو ـ سياسية. النمطان الأولان يميزان 40 ـ 50 % من سكان البلاد الراشدين أو كبار السن، ويضمان أناساً يرون: أنه كان يجب على البلاشفة أن يقبضوا على السلطة (52%)، وأن ثورة تشرين أول (أكتوبر) عبرت عن الإدارة الحقيقية لشعوب البلاد (39%)، وأنها فتحت عصراً جديداً في تاريخ البلاد وأعطت دفعاً لتطورها الاجتماعي والاقتصادي (45%).

يعبر أعضاء النمط الثاني، ويشكلون 25 ـ 30% عن مواقف أخرى. يعترفون بالضرورة التاريخية للثورة، لكنهم يدينون الكثير من أفعال البلاشفة... يتميز الموقف الثالث عن الثاني بتزايد النقد لعدم القبول المبدئي لأفكار ثورة تشرين أول (أكتوبر). ويرى مؤيدو هذا الموقف أن استيلاء البلاشفة على السلطة لم يكن ضرورة تاريخية (28%)... وشكل مؤيدو انتقال البلاد من الطريق الاشتراكي إلى الرأسمالي حوالي 10%.

 

في زمن البرويسترويكا، على سبيل المثال، استهوى الإنتلجنسيا نقاش تجريدي حول ما إذا كان يصح تسمية النظام السوفييتي "اشتراكية" أم لا


استخدم في استطلاع أيلول / سبتمبر لعام 1990 نمط آخر من السؤال ذاته "أي خط يجب أن يتبعه الاتحاد السوفييتي في المستقبل؟". أيد 8% من المستطلعة آراؤهم "التراجع عن الاشتراكية والتحول إلى الرأسمالية"، في حين أيد 30% "تبني اشتراكية ديمقراطية من النمط الأوروبي الشمالي الذي يجمع بين الاشتراكية والرأسمالية".

النتيجة العامة هي أن القسم الأعظم من الناس السوفييت يرى أن الطريق التاريخي الذي اختاره مجتمعنا خاطئ.... وثمة أسس لتوقع أن تزداد، مع تطور اقتصاد السوق وتكون شريحة من رجال الأعمال المقاولين، حدة الصراع بين هؤلاء الأخيرين وبين جمهور الكادحين.

من الواضح أن نصف المستطلعة آراؤهم يؤيدون، ليس فقط اشتراكية نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بل والبلاشفة، ولم يؤيد التراجع عن الاشتراكية والتحول إلى الرأسمالية سوى 8%، لكن السيدة زاسلا فسكايا تدعي أن "القسم الأعظم من الناس السوفييت يرى أن الطريق التاريخي الذي اختاره مجتمعنا خاطئ".... فعلاً لا حدّ لديماغوجية مهندسي البريسترويكا.

 

القسم الأعظم من الناس السوفييت يرى أن الطريق التاريخي الذي اختاره مجتمعنا خاطئ.... وثمة أسس لتوقع أن تزداد

 
في النهاية، المشروع السوفييتي لم يستنفد ذاته، والنظام السوفييتي لم يمت بفعل أو بقوة الشيخوخة. كانت عنده أمراض نمو، وعدم توافق عديد من مؤسساته مع واقع الحال الجديد للمجتمع والإنسان في النصف الثاني من القرن العشرين. كان يشكو من "تعب زائد" نتيجة الجهود المضئية لتجاوز المتراكم من المهام وبسبب الحرب القاسية. وكان ثمة ارتباك في اتخاذ القرارات في المواقف الحاسمة.

في ظل هذه الحالة الموصوفة أعلاه "قتله" الخصم في حرب باردة لكن بأيدي "أهله" ـ حلف مكون من ثلاث قوى في المجتمع السوفييتي: قوة من القيادة العليا "نومنكلاتورا" للحزب الشيوعي السوفييتي، وقوة من الإنتلجنسيا "الغربويين" وقوة عالم الإجرام.

لا مجال لاستنتاجات أخرى حول نقص أو عيب في المشروع قضى بموت حامله ـ النظام السوفييتي . فيحصل أن تلدغ حشرة تيفوس شخصاً ذكياً، قوياً وجميلاً ويموت بنتيجتها. ولا يصح الخروج بأية استنتاجات حول سمات هذا الشخص وحاله، أو حتى حول صحته. وحول واقعة موت الاتحاد السوفييتي يمكننا استنتاج أمر واحد فقط، هو أن بعض الأجهزة الدفاعية للنظام السوفييتي باتت ضعيفة. هذا الاستنتاج هام جداً، لكن لا يجوز تعميم هذه النتيجة على باقي أجهزة النظام الأخرى.

لا معنى لإعطاء النظام السوفييتي "دمغة" من قبيل اشتراكية، اشتراكية عسكرية، أو رأسمالية الدولة... إلخ. لا تقود هذه التعريفات إلا إلى جدالات عقيمة. في زمن البرويسترويكا، على سبيل المثال، استهوى الإنتلجنسيا نقاش تجريدي حول ما إذا كان يصح تسمية النظام السوفييتي "اشتراكية" أم لا. ومن هذا القبيل سألت الأكاديمية زاسلافسكايا في محاضرة هامة لها جمهور مستمعيها قائلة: "يبرز سؤال، أي نمط مجتمع أقيم في الاتحاد السوفييتي، وما علاقته بالنظرية الماركسية؟". "اشتراكية المعسكر" فتشوه النموذج الأساس يمكن عندئذ التسليم بصحة هذه المقارنة. لكن، وكما نعلم، لم يكن ثمة في الوجود اشتراكية أساس أفرزت النظام السوفييتي. 

سوف ننطلق من شيء واضح تماماً هو أن النظام السوفييتي كان نظام حياة لبلاد كبيرة شاسعة ومعقدة، لها نمط اقتصاد ونمط دولة تتعايش فيها قوميات عديدة. نحن نعرف كيف تغذي الناس، من أية أمراض شكوا ومما خافوا. والآن نرى كيف يتم نسف البنى الأساسية لهذا النظام، وأية نتيجة معبرة عنها في مفاهيم مبسطة وقاسية. من كل هذا يجب تكوين معرفة عن النظام السوفييتي، بناء صورته والبحث عن أسباب ضعفه وموته.

 

إقرأ أيضا: الجذور التاريخية لنشأة المعسكر الاشتراكي.. قراءة معاصرة

 

إقرأ أيضا: تاريخ المشروع السوفييتي والولادة القيصرية للنظام

التعليقات (0)