كتاب عربي 21

من يروض الحصان الغشيم؟

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
دخلت المسألة المصرية في مسارها الموروث، ويبدو أن كل الظروف تخدم الاتجاه القديم ذاته.. اتجاه الحاكمين من فوق ظهور الخيل، حيث لا يكون هناك مساحة للحوار، ولا مكانة للعقل ولا للعدل، حيث ينمو الخوف في الشوارع والبيوت والنفوس، وحيث لا يعلو صوت فوق صوت السيف.

(2)
لا أريد أن أبخس قيمة "القوة" في الحياة، ولا أحب أن أضعها في الطرف المعاكس للعقل، وإذا كان "الحصان" هو رمز القوة منذ القدم وحتى الآن، فيمكن تقريب المعنى بتشبيه "القوة الغاشمة" بالحصان قبل ترويضه، والقوة العاقلة بالحصان النافع بعد ترويضه. ولهذا، يهمني أن أسأل: لماذا نجحت مجتمعات كثيرة غيرنا في حرق أزماتها وحروبها الداخلية، بحيث تحولت المآسي إلى فرصة سانحة لصهر المعدن وتطهيره من الخبائث، والوصول إلى سبيكة حديثة أكثر مقاومة وقدرة على مقاومة الصدأ والتآكل؟ ولماذا فشلت مصر في ذلك وتعثرت مشاريع تحديثها كدولة دستورية عصرية، حتى أنها ظلت لأكثر من تسعة قرون تدور في نفس الدائرة الملعونة التي يلخصها الدستور المملوكي الشفوي "الحُكم لمن غَلَبْ"؟

(3)
لماذا ظل الحكم في بلادنا للسيف، كأننا غابة جاهلية أبدية؟

لماذا لم يصبح الحكم في بلادنا لمن عَقِل، أو لمن عَلِم، أو لمن عَمِل، أو لمن عَدِل؟

ألم تتبن القبائل المتناحرة في الغرب مقولة ابن خلدون "العدل أساس المُلك"، فتحولت من ميادين صراع واقتتال؛ إلى ممالك ودول عصرية ناجحة ومتفوقة، بينما لا نزال نحن نعيش تحت حكم البطش والخوف وهيمنة القوى الغاشمة؟!

(4)
رأيي أن الخطأ الأكبر في الحالة المصرية هو خطا الأسئلة، قبل أن نذهب إلى مناقشة الإجابات؛ لأن الأسئلة الخاطئة تهدر الزمن والجهد والأمل، وتذهب بنا دوما لخطيئة الاقتتال على لا شيء.. تذهب بنا إلى نزاعات الافتراق والتكسير والتضاد الفوضوي، فتذبل قضايانا، وتتفكك وحدتنا، وتنهار عزيمتنا. والخطأ المركزي الذي يبرز للعيان وللعميان هو أننا نريد بناء هرم قاعدته لأعلى ورأسه لأسفل؛ لأن القاعدة كلها تريد أن تكون رؤساً، بحيث يتجلى يوميا القول المصري الشائع "100 عمدة على فلاح واحد"، كما رددها الفلاح المتذمر في مسرحية محمود دياب، ساخرا من فرط السلطة عند الناس ورغبتهم في الحكم والتحكم أكثر من رغبتهم في الحياة.

 

 

تفشي الرغبة في الحكم بين أفراد مجتمع ما؛ تعكس حالة التمييز وغياب القانون واختلال منظومة العدالة، بحيث تصبح السلطة هي السبيل الوحيد للثراء والأمان وتحقيق الرفاه المعيشي


(5)
لا شك في أن تفشي الرغبة في الحكم بين أفراد مجتمع ما؛ تعكس حالة التمييز وغياب القانون واختلال منظومة العدالة، بحيث تصبح السلطة هي السبيل الوحيد للثراء والأمان وتحقيق الرفاه المعيشي، وبالتالي يغادر الناس مواقعهم في القاعدة الاجتماعية، ويتزاحمون ويتصارعون ويتآمرون للوصول إلى السلطة أو الاقتراب منها، أو النفاق والتقرب لمن يشغلون هذه المراكز. وهكذا، دخلت مصر في عبث المتاهة الدائرية والمجتمع المركزي الذي تحول فيه الفرد إلى حالة من اثنتين: إما تابع وخادم للسلطة أو سجين ومطارد.

(6)
هذه المركزية لم تبق داخل قصور الحكم، ولم تقتصر على المجال السياسي، لكنها تحولت إلى وباء شامل حتى داخل البيوت، مرورا بالورش الحرفية والحقول والأفران والحواري الشعبية. ولعل نجيب محفوظ في صياغته لتقاليد الفتوات في التنصيب والخلع، عبّر بأوضح صورة عن رضا الناس بدفع الإتاوات لمن غلب، والهتاف باسم من يفوز في "صراع النبوت"، بصرف النظر عن سلوكه وأخلاقه، فالفائز "اسم الله عليه" ليس لأنه أعدل أو أجدر أو أحق، ولكن فقط لأنه تمكن من إسقاط خصمه.

(7)
هذا الرضا الشعبي يعد اعترافا تاريخيا بشرعية "حكم النبوت" في مصر، ورغم أن محفوظا سعى للتفرقة في "حرافيشه" بين "فتوة ظالم" و"فتوة عادل"، إلا أن الصورة تكشف لنا جذور فكرة الاعتماد على القوة الغاشمة في تسيير الحياة داخل الحارة المصرية، وهو ما كان يقوم به "العُمَد" وأحيانا "أولاد الليل" في ريف مصر؛ المصاب بفوبيا السلطة من فرط التنكيل والقمع الذي تعرض له الفلاحين.

 

الصورة تكشف لنا جذور فكرة الاعتماد على القوة الغاشمة في تسيير الحياة داخل الحارة المصرية

(8)
السؤال: إذا كانت المعارضة تتمركز حول سؤال السلطة وتفكر بنفس الطريقة الموروثة، فما جدوى إسقاط "حكم النبوت"؟ وماذا يفيد الناس "العاديين غير الراغبين في الفتونة" إذا قضى "فتوة محبوب" على "فتوة مكروه"، ثم جاء ليمارس الحكم بنفس الطريقة: يصعد بذراعه ويذهب بذراع آخر أقوى منه، وبينهما يفعل ما يناسبه ويناسب حاشيته الداعمة والحاكمة بالقوة الغاشمة؟

 

لا شك أن مرجعية "حكم النبوت" لن تتيح الحكم أبداً لقاض نحيل أو عالم جليل أو خبير اقتصادي من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو رجل إدارة ناجح يرتدي نظارة طبية ولا تنطبق عليه شروط الالتحاق بكلية الشرطة أو الكليات العسكرية، لذلك يظل الحكم حكرا على الحصان البري قبل ترويضه، وهو حصان قوي فعلاً، لكنه غير نافع للإنسان.

 

(9)
رأيي أن تخرج المعارضة المصرية من مركزية الصراع على السلطة، وأن توسع من اهتمامتها بقضايا المجتمع بهدف جودة الحياة وتحسين معيشة المواطنين، والعمل الملموس لإيجاد آليات تضغط من أجل تصحيح موقع السلطة ودورها، وضبط أدائها على مؤشر الالتزام بالدستور والقوانين وحقوق الإنسان، وانتزاع حق الأفراد في محاسبة المسؤولين، حتى نتمكن في يوم من تأسيس قضاء مستقل قادر على إقامة العدل كأساس للملك.

 

رأيي أن تخرج المعارضة المصرية من مركزية الصراع على السلطة، وأن توسع من اهتمامتها بقضايا المجتمع بهدف جودة الحياة وتحسين معيشة المواطنين

وفي رأيي أن هذه الأمور يجب أن لا ترتهن بوصول كل معارض للسلطة، لكي يفرضها بالنبوت، ولكن علينا أن نتبنى مواصفات الحياة المنشودة، لكي نناضل من أجلها وليس من أجل كرسي الحكم.

(10)
لا أدين سعي أي حزب أو تيار أو جماعة للسلطة، ولكن أدين تأجيل قضايا الحياة لحين وصول أصحاب المشاريع السلطوبة لمقار الحكم، ثم يفاجئوننا بانشودة الضرورة، ويفرضون علينا ما كانت تفرضه السلطات السابقة مع تغيير الحجج ووجوه الحاشية المنافقة 

(ps.)
وددت لو كتبت بالتفصيل عما يحدث في السودان والجزائر وممالك عربية أخرى يحكمها النبوت، لكنني أعتبر هذا المقال نوعا من الكتابة (بأدب وحذر) عن شؤون شعوب نحبها ونعتبر أنفسنا منهم كما نعتبرهم منا. فالمقال يشير إلى مصر صراحة، لكنه يرمز بما يكفي من الوضوح إلى كل شقيقاتها المحكومات بالنبوت.

[email protected]

التعليقات (3)
ظبيه الهاشمي
الجمعة، 21-06-2019 04:37 م
لم تتكون احزابنا وشعاراتها الفارغه من المظمون إلى لكي تستلم وتحلم بالحكم..
ظبيه الهاشمي
الجمعة، 14-06-2019 04:56 م
الحقيقه ما كتبت.. ورأيك أن الحصان الجامح هو المسيطر فهذه حقيقه نفسيتنا التي تعبد الأقوى وهو خلل في تربيتنا وقيمنا التي تربينا عليه.... وستبقى على ما نحن عليه... في هذا الزمن المادي وذو المتطلبات الكثيره وسنجر للئسوء بعد سيطرة البداوة على الحداثة والثقافه التي اكتسبتها منذ الخمسينات واحسسنا أن في الأفق نور .. ثم تكونت منطقة البترول دولار فتحكمت بالقرار بالتهديد والترغيب وعدنا لحكواي عنتره والوزير سالم.. . ... وانتهى المشوار ...وسنرد اي شراره تطلعيه بكل الطرق كما يحصل في السودان والجزائر وشاهدنا ما حصل قبلها.... والسلام
الصعيدي المصري
الخميس، 13-06-2019 09:53 م
..... بعد الانقلاب العسكري الدموي في مصر على السلطة الشرعية التي مثلت إرادة الشعب .. انقسم داعموا الانقلاب ممن ( يطلق عليهم ) الإعلاميين والنخب والمثقفين والسياسيين على اختلاف توجهاتهم إلى 3 أقسام .. الأول هو من استمروا على دعمهم لنظام الانقلاب وهؤلاء قد حصلوا ومازالوا على اختلاف مواقعهم على امتيازات معينة من النظام الانقلابي العسكري . . النوع الثاني .. هم من ظنوا بأنفسهم بأنهم على قدر من الموضوعية والشجاعة وأرادوا أن يثبتوا ذلك – لفترة لم تطل – لمتابعيهم ومريديهم .. باعتبار أنهم انتقدوا وعارضوا بل ودعموا الانقلاب على السلطة المنتخبة لأنها حسب ما روجوا له كانت سلطة فاشلة – وهاهم لا يهابون الخروج عن الدائرة الخضراء التي حددها لهم حليفهم السلطان الجديد – فإذا بهم يفاجئون بأن اليوم غير الأمس .. فغيروا جلودهم ومنابرهم إلى برنامج ترفيه واكتشاف مواهب والبحث قي أصل مشكلة شيماء مع هيفاء .. أو برنامج آخر عن عصير الطماطم والأكل الصحي أو برنامج ثالث عن عصير الكتب بطعم أرشميدس و المنفلوطي و نجيب الريحاني وتاريخ الجبرتي .. أو حتى بعيدا عن وجع دماغ قد يتسبب في هلاكهم .. النوع الثالث .. هم بعض الأكاديميين والنخبجية والمتثوقفين .. ممن استمروا في التنظير لذات القيم والمبادئ والمواعظ التي انقلبوا عليها عمليا .. معتمدين .. ربما على الظن بأن كثير من قرائهم له ذاكرة السمك .. هذه الذاكرة التي تضع برزخا متضادا غير مفهوما لترجمة هذه المبادئ مرة في الواقع العملي الذي مارسه المنظرون - وأخرى على النقيض في صفحات كتب الدرس التي يدرسونها لطلابهم أو ينشروها في مقالاتهم وتحليلاتهم ..