أفكَار

الجزائر.. موائد إفطار وسهرات رمضانية على وقع السياسة

الجزائر.. الحراك الشعبي يحول سهرات رمضان إلى منابر للحوار الفكري والسياسي (إنترنت)
الجزائر.. الحراك الشعبي يحول سهرات رمضان إلى منابر للحوار الفكري والسياسي (إنترنت)

لم ينقص دخول شهر رمضان المعظم، من عزيمة الجزائريين في حراكهم من أجل الحرية شيئا، بل على العكس تماما، فقد توسعت دائرة الجدل والنقاش السياسي، من أيام الأسبوع إلى الليالي في سهرات رمضانية سياسية بامتياز، تبتدئ من موائد الإفطار، التي انتشرت بشكل غير مسبوق لمواكبة الحراك الشعبي في هذا الشهر، وإلى غاية ساعات متأخرة مع السحور. والمدهش في التجربة الجزائرية أنها خلقت لنفسها فضاءات خاصة لمثل نقاشات سياسية كهذه، تكون أحيانا ساخنة جدا، خارج دائرة الفضاءات الأخرى التي باتت تقليدية، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك في أماكن محددة صارت محجا لنشاط الحراك والمتظاهرين للتعبير عن آرائهم السياسية.

على غرار النموذج المصري

وبصيغة أكثر تطورا مما شهدته الثورة المصرية، من نقاشات ساخنة في ساحة التحرير وميدان رابعة العدوية، تحولت ساحات بعينها في الجزائر، مثل ساحة البريد المركزي وساحة أودان بالعاصمة، وساحة قصر الشعب بمدينة برج بوعريريج (شرق الجزائر) التي افتكت عن جدارة لقب عاصمة الحراك، إلى ساحات مفتوحة للنقاش السياسي والخطب الثورية، وأماكن أساسية لتوجيه الحراك، وجلب الرموز السياسية والناشطين، يتخلل كل ذلك تحول المسيرات المليونية في حد ذاتها إلى فضاءات مفتوحة للنقاش أيضا، خاصة مع احتدام الجدل، بين أنصار الحل الدستوري الذي تطرحه المؤسسة العسكرية، وأنصار الحل السياسي أو الحل المزدوج الذي تطرحه قوى المعارضة، إلى درجة بدأت ملامح الانقسام جلية للأسف داخل الحراك الواحد نفسه، بين من يمكن تسميتهم "العقلانيين" الذين يتحسسون من مخاطر الانزلاق وتدخل القوى الأجنبية، وبين الراديكاليين أو المزايدين أحيانا، ممن يتخوفون من حكم العسكر أو التزوير أو يريدون فقط المعارضة والتأزيم.

 



وبين هؤلاء وأولئك، يظهر جيل جديد من صناع الوعي الحقيقي، بعد أن تخلص الشباب الجزائري الذي هو وقود هذا الحراك، من كونه مجرد أنصار بلهاء لأمثال ميسي ورونالدو، وحكايا الكرة المستديرة الفارغة، ليعلن ميلاد شعب كامل تحول فجأة إلى خبير دستوري يشرح مواد الدستور مادة مادة، في طريقه الصعب نحو بناء الديمقراطية الحقة.

ركن الخطباء من (الهايد بارك) إلى ساحة أودان

أكثر إبداعات الجزائريين لفتا للانتباه، هو ركن الخطباء أو منبر الشعب الذي أقاموه في قلب ساحة أودان وسط العاصمة الجزائرية، غير بعيد عن الجامعة المركزية، حيث نقل أصحاب المبادرة فكرة ركن الخطباء البريطاني من الهايد بارك، الذي ظل بالنسبة للجزائريين والكثير من العرب حلما بعيد المنال طوال عقود من الزمن، ليصبح في خضم الحراك الشعبي منبرا حقيقيا للتعبير الحر في قلب عاصمة عربية ظلت منذ 2001 يمنع فيها التظاهر السلمي منعا باتا، ومكانا يطرح فيه الجزائريون أفكارهم بكل حرية، بينما يلتف حوله آلاف المتظاهرين من مختلف التوجهات.

واللافت في ركن الخطباء الجزائري هذا، أنه بقدر فتحه المجال أمام المثقفين والسياسيين وشباب الحراك من الطلبة، بقدر ما فتح أيضا المجال أمام الناس البسطاء للحديث عبره، وقد شاهدنا على منبره نساء ماكثات بالبيت، وشيوخا وعجائز وعمالا وفلاحين.

 



غير أن ما يؤخذ على الركن، بحسب البعض، أن جماعة بعينها من أطراف الصراع داخل السلطة، وبعضهم يصفها بأنها من أتباع الدولة العميقة، من أتباع حركة "مواطنة" التي سبق ودعت قبل اندلاع الحراك إلى التظاهر يوم الأحد في ساحة أودان، هي من تقف وراء الركن، بدليل أن هناك من الخطباء من تم إنزالهم لأنهم مدحوا قيادة الجيش، وهذا ما يحسب ضد أصحاب الركن، لأن الحرية في كل الأحوال لا يجب أن تكون انتقائية، خاصة أن نسبة من الشعب الجزائري مقتنعة بخارطة طريق المؤسسة العسكرية بالذهاب إلى الانتخابات والحفاظ على المسار الدستوري، ولديهم حججهم القوية في ذلك.
لكن يبقى أن هذه التجربة مهمة في سياق التأريخ لحراك الشعب ومطالباته بالحرية، حيث إن مطلب حرية التعبير والرأي من أساسيات الثورة الشعبية ومن أهم مطالبها، وقد أعطى الجزائريون في هذا المنبر دليلا على تعطشهم للحوار والحديث الحر في الشأن العام، بعيدا عن التخويف والترهيب.

تجربة البريد المركزي

اكتشف العالم كله، عبر التغطيات الحية والمباشرة، اسم ساحة البريد المركزي، المحاذية للبريد المركزي سابقا، وهو تحفة معمارية فريدة من نوعها بطرازها العربي الإسلامي، وتتوسط هذه الساحة حديقة قصر الحكومة الواسعة التي تغازل ضفاف مياه البحر المتوسط، وعلى جنبات الساحة البهية، يتفرع شارعا العربي مهيدي وديدوش مراد، لتعطي بدورها منظرا جماليا بديعا للحراك بملايينه المتحركة شوقا للحرية.

غير أن ساحة البريد المركزي، ليست فقط مكانا للتظاهر، والتنافس أحيانا في حمل الرايات والشعارات المختلفة، بقدر ما تحولت إلى كعبة للثوار من كل حدب وصوب، يأتونها من العاصمة ومن باقي الولايات الجزائرية الأخرى، أين تمتزج الحساسيات السياسية عبره في فسيفساء وطنية جميلة، لكنها تخفي أيضا صراعات وتناقضات كبرى أيضا، كثيرا ما يحتد النقاش والجدل بسببها عبر تلك الأرجاء.

ولعل غير الجزائريين لاحظوا عبر البث المباشر لتلك المظاهرات، أن المتظاهرين يحملون أعلاما وطنية معروفة، لكن يوجد إلى جانبها أعلام الهوية الأمازيغية، وهي أعلام ورايات يحملها بعض الجزائريين من الأمازيغ، وبعضهم بأتي للعاصمة صباحا من تيزي وزو وبجاية ذات الغالبية الأمازيغية، في محاولة لإثبات الهوية الأمازيغية في مقابل الهوية العربية. وهذا الوضع أدى إلى نشوب نقاشات ومجادلات كبيرة وعديدة بين المتظاهرين على خلفية هذه الشعارات والرايات، لكنها لحسن الحظ، ظلت في نطاق النقاش السلمي والهادئ، لإدراك المتظاهرين أن أي انزلاق أو صراع علني، سيؤدي بالحراك إلى الفشل لصالح عصابة السلطة المتحكمة.

 



ويرى الكثير من الجزائرين أن حراك البريد المركزي مخترق من جهات عديدة، ليس فقط لأن الراية الأمازيغية صنعها كما يقولون الفرنسي جاك بنيت، قبل خمسين سنة فقط، ولم يعرفها الجزائريون ولا مجاهدو ثورة التحرير من قبل أبدا، وإنما لأن تيارات سياسية "استئصالية" وقفت مع انقلاب كانون ثاني (يناير) 1992 ومع الدبابة في ذلك الوقت، وضد الاختيار الشعبي، هي من تقف اليوم بشراسة ضد الجيش؛ لأنه يقف إلى جانب الشعب ويرفض إطلاق النار على المتظاهرين.
 
ولا يكاد حراك البريد المركزي يختلف في شيء من حيث الهيكلية، عن حراك ساحة أودان، حيث تمتزج التيارات السياسية والفكرية ظاهريا، لكنها تختلف عمليا في فهم طبيعة الدولة، وكيفية الوصول إلى الديمقراطية، هل بالذهاب إلى الانتخابات الرئاسية أولا مع استيفاء شروط نزاهتها، أم بالذهاب إلى مرحلة انتقالية طويلة تتطلب مجلسا رئاسيا للحكم، ومجلسا تأسيسيا لإعادة كتابة الدستور قبل الذهاب للرئاسيات، ما يظهر بوضوح تناقض مشاريع المجتمع بين التيار العربي الإسلامي من جهة، والتيار العلماني الفرنكوفوني من الجهة المقابلة.

"تيفو" البرج ونقاش الجزائر العميقة

بعيدا عن الجزائر العاصمة، تتصدر مدينة برج بوعريريج التي تقع شرق العاصمة وتبعد عنها بأكثر من 230 كلم، مشهد الحراك من بداياته الأولى، حيث كانت المدينة السباقة إلى جانب خنشلة وخراطة في إشعال فتيل الانتفاضة قبل أن تنطلق رسميا في الـ 22 شباط (فبراير) الماضي، غير أن ما ميز حراك مدينة البرج التي تعد مدينة الشيخ البشير الإبراهيمي الرئيس الأسبق لجمعية العلماء المسلمين، ومدينة مرشح الحراك لتولي المرحلة الانتقالية الدكتور أحمد طالب الابراهيمي، أنه كان حراكا مليونيا باهرا، وحراكا وحدويا جامعا، حيث تصدرت فيه الراية الوطنية وحدها المشهد البرايجي تقريبا، كما تميز بعدم عدائه للمؤسسة العسكرية والدفاع عن ثوابت الهوية الوطنية من عروبة وإسلام.

الأهم من كل ذلك، أن حراك مدينة برج بوعريريج، تميز بخاصيتين كبيرتين أيضا، الأولى اجتماع التظاهرات في ساحة قصر الشعب، وهي بناية عالية لم يكتمل بناؤها بعد، حوله البرايجية إلى منبر كبير لرفع اللافتات عبره، وذلك مباشرة بعد أن تم منع الصعود على بناية مشابهة في وسط الجزائر العاصمة لأسباب أمنية، والميزة الثانية هو إصدار "تيفو" سياسي كل جمعة، يحمل رسومات سياسية معبرة عن آراء الشارع البرايجي، يتم إظهاره من فوق قصر الشعب وسط أهازيج شعبية ضد منظومة الفساد.

 


التيفو السياسي الذي استقطب أنظار الجزائريين كل جمعة، والذي عبر أصحابه من شباب البرج، عن آراء سياسية وطنية أصيلة، وعن حس وطني منقطع النظير، شكل ضربة موجعة لكل دعاة الفتنة، وقد أظهرت جولة "عربي21" في حراك البرج أن شباب البرج وعلى رأسهم "أولاد الجباس"، أردوا أن يوصلوا أصواتهم ورأيهم بطريقة مختلفة بعيدا عن الجدل العقيم، وقد أكد هؤلاء الشباب أنهم يتبرعون من جيوبهم من أجل إنجاز صورتهم العملاقة التي تعبر عن قناعاتهم، وعن قناعة الكثير من الجزائريين داخل الجزائر العميقة، من الذين لم يتلوثوا بحسابات سياسوية خاصة، وهي الرسالة التي يبدو أنها وصلت بالفعل إلى الملايين عبر تراب الجزائر، وجعلت من مدينة البرج محجا لألاف الجزائريين من الولايات الأخرى، ليحضروا معهم حراكا أثبت أنه بات عالميا، يتصدر الصفحات الأولى لكبريات الصحف العالمية.

وأعلن نشطاء مدينة البرج فتح منبر آخر للآراء الحرة، الجمعة 13 في قصر الشعب، ليكون ركن الخطباء الثاني بعد ركن خطباء العاصمة، على أن تعمم الفكرة على كل ولايات الجزائر الـ48، بهدف تحويل الجزائر كلها إلى أرض للخطباء والآراء الحرة.

سهرات وموائد رمضانية على وقع السياسة

من عادات الجزائريين الرمضانية، إقامة موائد رمضان ومطاعم الرحمة، للمحتاجين وعابري السبيل، غير أن رمضان هذا العام جلب معه في زمن الحراك نكهة خاصة، فقد اقترنت "الشوربة" و"البوراك" وحلوى "الزلابية"، بالنقاش والتحليل السياسي، حتى إن موائد الإفطار ومن باب التندر صارت تردد شعارات ثورية رمضانية أبدعها طلبة الجامعات من قبيل "سلمية بالزلابية" و"الحراك بالبوراك"، غير ان أهم ما ميز تلك الموائد التي تضم في كل ولاية آلاف الناس من مختلف الطبقات التي تفرض عليهم الظروف المرور عبرها، أنها تحولت إلى عكاظيات حقيقية للنقاش وتبادل الأفكار ودراسة أوضاع البلد على ضوء المستجدات الحاصلة.

وشهدت الجزائر في رمضان هذا العام أضخم وأطول موائد الإفطار على الإطلاق محليا وربما عالميا أيضا، خاصة الموائد الضخمة التي أقيمت في العاصمة والبرج أيام الجمعة في أعقاب المسيرات المليونية، أين تنقطع السبل بآلاف الجزائريين القاطنين في مناطق بعيدة إلا باللجوء إلى هذه الموائد التي تقام بأماكن التظاهر نفسها، وفيها يجتمع جزائريون من مناطق وولايات مختلفة، لتكون فرصة نادرة لتبادل الأفكار في أجواء تغمرها في الغالب المحبة والاحترام، رغم الاختلافات الأيديولوجية الواسعة أحيانا.

بينما تستمر سهرات الجزائريين بعد التراويح في المقاهي والأماكن العامة، يفضل آخرون سهرات سياسية مفتوحة داخل الأحياء الشعبية، كما عرفت مدن عديدة نقاشات واسعة في الساحات العامة على غرار ولايات وهران والبرج وغيرها، شارك فيها الجميع من دون استثناء، غير أنها في هذه الحالات تكون أقرب لخلايا التوعية، منها إلى منابر للتراشق والجدل السياسي.

الاصطفاف الأيديولوجي أضر بالحراك

وفي استطلاع لآراء عدد من الناشطين الجزائريين ضمن الحراك، يؤكد الاعلامي عبد الغني بلقريوس لـ "عربي21"، أن الساحات والحدائق العمومية والمقاهي الشعبية أصبحت تعرف حلقات نقاش سياسي، يمتد في الكثير من الأحيان إلى الساعات الأولى من الصباح، بل وتعدى الأمر إلى السهرات العائلية، حيث غدت حتى النساء تشاركن في النقاشات مثلها مثل الرجال، والنقاش في كل الأحوال إيجابي، لكن أن يكون الجدل والنقاش دافعا لتقسيم الصفوف وإضعافها عبر الاصطفاف الأيديولوجي والطائفي، وعامل إلهاء عن المطالب والتخلي التدريجي عن جوهرها، فهنا يصبح الاندفاع  فيه في هذه المرحلة المفصلية من مسيرة الحراك الشعبي خطرا ماحقا، وقبلة الحياة لعُصبة النظام التي أوشكت أركانها على السقوط، وفق تعبيره.

من جانبه اعتبر الناشط عيسى بن جدة في تصريح لـ "عربي21"، أن الجزائر اليوم تعيش في أجواء حرب بسبب هذا الجدل والصراعات، وحالة هي أشبه بإعلان تعبئة ضد جيش الجزائر وتشويه له، والتقليل من قيمة ما فعل ربما لأجل أن يسهل فيما بعد الاستقواء عليه بمن هم يتربصون بنا الشر، عبر كل حدودنا وينتظروننا في الهيئات الدولية، منوها إلى أن ما يحصل لا يعدو أن يكون تحريضا وشحنا للشباب والطلبة منهم خاصة، للثورة وزرع الفوضى وعدم الامتثال للعرف ولا للقانون ولا حتى احترام الدين وشعائره كما شهدناه في حادثة الإفطار في رمضان داخل حرم الجامعة، ربما كان أصحابها يبحثون عن المواجهة والخروج عن السيطرة.

 



واضاف بن جدة: "شخصيا لا أجد نقاشا حقيقا وموضوعيا يطرح أفكارا للتحليل والتطوير والتعمق والتقييم، وقد سقطت وجوه عديدة مما يسمى بالطبقة المثقفة أو السياسية. هؤلاء اختزلوا كل النقاشات في تعبير شعبوي (يروحوا قاع) وفقط. وإن كان الوضع يختلف قليلا في وسائل التواصل الاجتماعي أين تجد شيئا من النقاشات المفتوحة المعتمدة على لغة الإقناع والشرح والتفسير دون تخوين أو إقصاء".

وقال بن جدة في معرض شرحه لهذا الواقع الصعب: "هناك في المقابل ثلة من الجزائريين أخذت على عاتقها أن تكون عقلانية بخلفية وطنية تطالب بصدق بالاحتكام إلى رأي الأغلبية، الذي لا يمكن أن تكون له إلا الآليات المتعارف عليها دوليا في إثباته أو نفيه، وهي الانتخابات والاختيار الحر المراقب من طرف هيئة مستقلة يشرف عليها ممثلو الشعب".

الجدل بدل النقاش والحوار

أما الكاتب والإعلامي محمد دلومي، فبدوره اعتبر أن الحراك حرر الجميع وأعطى الفرصة للكل للإدلاء بآرائهم، بل حرر حتى مسؤولين سابقين من تحفظهم وقرروا الخروج عن صمتهم بعد سنوات من التكتم  على أوضاع خاطئة، إلا أن مستوى النقاش في ظل الاختلاف الأيديولوجي بدأ ينحرف عن الأهداف السامية التي سطرها الحراك، فمن كانوا من قبل يظهرون أنهم مناضلين سياسيين ظهر أن لهم أجندات ويرفضون الحلول المنطقية والدستورية، ما انعكس على مواقف الحراك الذي بدأ جزء منه يخرج عن المطالب الأساسية، والانقياد وراء ما يتم الترويج له من قبل أطراف سياسية تُسبق مصلحتها الضيقة على مصلحة الوطن، أو تحاول شق صف الحراك من أجل كسب المزيد من الوقت، لاسيما في ظل استدعاء العدالة للكثير من الأسماء السياسية التي يحتمل أنها متورطة مع العصابة التي كانت تحكم البلاد.

وفسر محمد دلومي الأمر في تصريحه لـ "عربي21"، بأنه يمكن ملاحظة هذا الجدل والاختلاف في المواقف على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث ترتفع وتيرة النقاش عند أي تصريح سياسي أو موقف يتم اتخاذه سواء تعلق بقرارات العدالة أو القرارات السياسية أو حتى التصريحات الحزبية، وإن كانت القنوات التلفزيونية لم تعد تواكب الجدل الحاصل كما كان عليه الأمر في البداية لاعتبارات تتعلق بالشبكة البرامجية لشهر رمضان، إلا أن الشارع الجزائري وجد في مواقع التواصل منابر لمناقشة المستجدات والمواقف، لاسيما أن بعض الأسماء سواء تلك التي تثمن قرارات المؤسسات العسكرية أو تلك التي تخالفها، جعلت المواطنين مشدودين (للمباشر) الذي يتم بثه في الفايسبوك من قبل بعض الأسماء السياسية، خاصة منها تلك التي تبث تصريحاتها ومواقفها من الخارج، ما يخلق جوا من الجدل وتصادم الأفكار بين ردود المتابعين، تصل في بعض الأحيان حد التطرف.

من جانبه يشير الناشط السياسي حفناوي غول إلى أن الجدل احتل مواقع النقاش الهادئ، ذلك أنه عوض أن يكون هناك نقاش وحوار بين كل الأطراف والأطياف، أصبح هناك جدل وتشكيك في كل شيء، بل وصل الامر إلى حد التخوين والتخويف ثم التهديد ورمي الكثير من الحراكيين والمؤسسات، وعلى رأسها مؤسسة الجيش بأنهم ضد الحراك والثورة، رغم أن الطرف الآخر هو من كان عرب الثورة المضادة في سنوات التسعينيات.

واستغرب حفناوي في تصريحه لـ "عربي21" كيف يكون الحوار بين الجزائريين في الشارع، ولا يكون الحوار مع مؤسسات الدولة، فالسلطة مؤسسة قائمة بذاتها ويجب أن يكون معها الحوار مهما كان من هو على رأسها، في حين يبقى الجيش الضامن الوحيد للمخرج الآمن بعد أن وضع فيه الشعب الثقة، وبعدما تدخل الجيش لمنع قمع التظاهرات.

الجزائر تسع الجميع

الحراك الجزائري إذن، لا يقتصر على الشارع، إنه بالأصل بدأ حراكا ثقافيا إعلاميا فكريا بالأساس، قبل أن يتحول إلى ثورة شعبية، ولذلك لا يمكن حصر مجالات هذا التحرك متعدد الاتجاهات، في نماذج بعينها، ويكفي الإشارة هنا، إلى أن الجدل والنقاش لا يقتصران على الشأن السياسي وحده، بل هو امتد إلى الجوانب الهوياتية والدينية والثقافية والاجتماعية، كما أن محركيه الفاعلين توسعت منابرهم من الصفحات المليونية لمواقع التواصل الاجتماعي لبعض الوجوه الجزائرية المؤثرة، إلى نجوم "اللايف" أو البث المباشر على الفيسبوك، إلى بلاطوهات القنوات التلفزية الخاصة وحتى العمومية، إلى المحاضرات والندوات الثقافية والسياسية التي تنظمها الجامعات ومراكز البحث والأحزاب وغيرها، وكلها تقريبا تتمحور حول البحث عن حلول للأزمة الحالية وقرارات المؤسسة العسكرية، والعمل على طرح أفكار لخرائط طريق حل الأزمة، التي صارت بالعشرات والمئات، إضافة إلى المبادرات ومحاولات إقناع شخصيات سياسية معروفة بقيادة المرحلة الانتقالية وغير ذلك.

والمثير في كل هذه الحركية داخل الحراك، أن المجتمع الذي ظل خامدا هامدا طوال أكثر من 20 سنة من حكم بوتفليقة، انفجر فجأة، فأبدع منظرين وكتابا وشعراء صاروا إلى حد بعيد منظرين لأطراف الحراك المختلفة، وقد تجلت إسهاماتهم في شعارات الشارع، والأفكار المتداولة، وهي كلها مؤشرات إيجابية مفيدة في بناء مجتمع جديد أكثر وعيا، لكن النقطة السوداء البارزة في مجمل الوضع، بعيدا عن ظهور التعصب للرأي وعمليات التخوين المتبادلة، بين دعاة الحل الدستوري ودعاة الحل السياسي، هو الظهور الرهيب لما بات يعرف بـ "الذباب الإلكتروني" الذي يملأ مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا من الطرفين، حيث يستعين كل طرف على الآخر بجهات خارجية وإمكانيات غير محلية، ما أدى إلى ظهور "ذباب حقيقي" حتى داخل الحراك نفسه، عبر ظهور شعارات الإقصاء والتخوين وامتلاك الحقيقة المطلقة.

ربما تتذكر الجزائر بهذه الروح المتجددة مع الحرية، أنها عاشت أجواء مشابهة من تاريخ الخامس من تشرين أول (أكتوبر) 1988 إلى غاية 12 كانون ثاني (يناير) 1992، وتلك فترة كان أيضا فيها الكثير من النقاش والجدل السياسي، لكنه كان بسبب التخلف التكنولوجي وقتها، أقل انتشارا وأقل وعيا، لكنها مع ذلك تبقى قترة تمثل خلفية مهمة لتجاوز الأخطاء السابقة، أخطاء استئصال الآخر المختلف، لأن الجزائر في النهاية بلد بحجم قارة، وهو قادر أن يحتوي جميع أبنائه مهما كانت توجهاتهم ومشاربهم، ففي هذه الأرض مكان للجميع.

التعليقات (0)