كتب

تونس.. "اتحاد الشغل" وجدلية العلاقة بين النقابي والسياسي

كتاب يؤرخ للدور النقابي والسياسي للإتحاد العام التونسي للشغل  (عربي21)
كتاب يؤرخ للدور النقابي والسياسي للإتحاد العام التونسي للشغل (عربي21)

الكتاب: الاتحاد العام التونسي للشغل حِزْبًا مُعَارِضًا
الكاتب: توفيق المديني
الناشر: جمعية هوية المقاومة، الطبعة الأولى ـ تونس ـ نيسان/أبريل 2019، 
(371 صفحة من القطع الكبير).

على الرغم من جهود الحكومات المتعاقبة على حكم تونس، للهيمنة على المنظمة النقابية الأكبر في البلاد، "الاتحاد العام التونسي للشغل، فقد ظل هذا الأخير ينحت كيانه النقابي المتميز، الذي أوصله إلى نيل جائزة نوبل للسلام مع عدد من المنظمات النقابية التونسية الأخرى.

الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني، يسلط الضوء في كتاب شامل صدر حديثا عن الاتحاد العام التونسي للشغل، على مسيرة هذه المنظمة النقابية، ويتساءل عما إذا كان سيتحول إلى حزب سياسي على النمط البريطاني، ثم يكون مدخلا لكتلة تاريخية بين القوى السياسية الأبرز في البلاد لبناء نظام ديمقراطي صلب.

وفي هذا العرض للكتاب، الذي أعده قسم أفكار بـ "عربي21"، نرصد هذه المحطات عبر ثلاث محاور رئيسية: اتحاد الشغل من التأسيس إلى الثورة.. جدلية النقابي والسياسي، ثم في الجزء الثاني نطرح سؤال التحول إلى حزب سياسي، فيما نتناول في الجزء الثالث والأخير، علاقة الاتحاد بالكتلة التاريخية.
   
حوّل الاتحاد العام التونسي للشغل، عقب تنفيذه يوم الخميس 17 كانون ثاني (يناير) 2019 إضرابًا عامًا في قطاع الوظيفة العمومية، مسارات النقاش في تونس من مآلات وتداعيات الإضراب على مستقبل الحكومة والبلاد إلى نقاشات سياسية وشعبية بشأن الدور السياسي للاتحاد إثر إعلان نورالدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسيى للشغل، أمام حشود من أنصار الاتحاد، أمام مقر البرلمان التونسي، أنّ المنظمة النقابية ستكون مهتمة بشكل كُلّي في المستقبل بأي انتخابات تجرى في تونس، قائلاً : "إنّ اتحاد الشغل تَهُمُّهُ الانتخابات التشريعية والرئاسية ولن نتخلى عن حقنا في أي من الانتخابات القادمة".

 


 
وجاء هذا الإعلان بمنزلة رسائل متعددة الأبعاد، حين كشف نورالدين الطبوبي عن عزم المركزية النقابية المشاركة بكامل ثقلها في المحطات الانتخابية المقبلة في خريف العام الجاري، وهو الإعلان الذي أثارجدلاً واسعًا في الأوساط السياسية التونسية، بين مؤيد ومتخوف، وطرح بصفة علانية حزمة من الاستفهامات حول مستقبل المنظمة النقابية وأدوارها، إِنْ أَقْحَمَتْ نفسها بصفة رسمية في عالم السياسة، من باب الانتخابات، والتي قد تنتج عنها إعادة تشكيل المشهد السياسي والاصطفافات الحزبية في البلاد، لا سيما أنّ مشاركة اتحاد الشغل في الانتخابات إِنْ حصلت، ستخرج أكبر منظمة نقابية من الاكتفاء بدورها الاجتماعي المدافع عن حقوق العمال، إلى لعب دور سياسي سيكون له تأثير بالغ في مستقبل الحكم، الأمر الذي سيقود إلى إنشاء الاتحاد العام التونسي للشغل حزب عمالي جديد على غرار حزب العمال البريطاني. 

تقدم هذه الدراسة البحثية التاريخية والسياسية المرتكزة على المنهج التاريخي الذي يعتمد على وصف الحقائق المرتبطة بالموضوع، والوقوف على طبيعتها، وتحليل علاقاتها، والربط بين معطياتها، وتحليلها من أجل التوصل إلى تقديم مقاربة في فهم الترابط القوي بين الدورالنقابي الذي يقوم به الاتحاد العام التونسي للشغل، باعتباره الهيئة النقابية الأبرز في تونس، وبين الدور السياسي الذي يقوم به هذا الاتحاد منذ تأسيسه في سنة 1946، بوصفه قوة حقيقية سواء في معركة التحرير الوطني من الاستعمار الفرنسي، أو في بناء الدولة الوطنية الحديثة، وكذلك في الصراع الاجتماعي مع نظام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، فيما كان له الدور الحاسم في الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي. 

إضافة إلى أنّ اتحاد الشغل قاد الحوار الوطني في سنة 2013 الذي انتهى بالإطاحة بحكم الترويكا بقيادة حركة "النهضة"، ما أهلّه مع كل من منظمة أرباب العمل وعمادة المحامين ومنظمة حقوق الإنسان، للفوز بجائزة نوبل للسلام. 

 



ويتجدَّد الجدل حول دور الاتحاد العام التونسي للشغل في الشأن السياسي الوطني عادة عندما يحصل التوتُّر بين المنظمة النقابية المركزية والسلطة السياسية الحاكمة، التي تتهم المنظمة النقابية بتجاوز وظيفتها الطبيعية: من المطلبية الاجتماعية إلى الشأن السياسي. غير أن العلاقة بين السياسي والاجتماعي في مجال تحرُّك الاتحاد يُعَدُّ إحدى خصائص هذه المنظمة وفرادتها، لذلك تبدو مسألة الفعل الوطني (السياسي) لهذه المنظمة النقابية الوطنية مسألة «محسومة» ماضيًا وراهنًا وربما مستقبلاً. 

يتكون هذا الكتاب من مقدمة، وثلاثة عشر فصلاً، يبدأ الفصلان الأول والثاني بمسح تاريخي لحقبة الاستعمار الفرنسي لتونس الممتدّة من سنة 1881 ولغاية 1956، حيث بدأت تظهر النقابات المستقلّة بعد الحرب العالمية الأولى بالتوازي مع ميلاد "الحزب الحرّ الدستوري" في 1920، فتم إنشاء "جامعة عموم العملة التونسيين"، وهو أوّل تنظيم نقابي في إفريقيا، على يدي محمد علي الحامي في 1924، وصولاً إلى تأسيس "الإتحاد العام التونسي للشغل" في 1946 بقيادة فرحات حشاد، الذي كان معروفًا إلى جانب دوره النقابي بأنّه من أبرز القادة الوطنيين خلال فترة الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، ما جعل المخابرات الفرنسية تغتاله في الخامس من ديسمبر 1952. 

 

الاتحاد والحركة الوطنية

ويركز الفصل الثالث، بالتحليل على طبيعة التناقضات الحادة التي كانت تشق الحركة الوطنية التونسية في مرحلة التحرر الوطني وبناء الدولة الوطنية الجديدة، بين جناح الحبيب بورقيبة مدير الحزب الدستوري الذي ينادي ـ بسياسة المراحل وبمبدأ خذ وطالب ـ الذي يندرج ضمن ما يسميه بفلسفة "التهديد والترغيب"، وبين جناح صالح بن يوسف الأمين العام للحزب آنذاك الذي كان ينادي "بمواصلة الكفاح المسلح" ومبدأ ـ التحرير الكامل ـ الذي يندرج ضمن "تحرير المغرب العربي". 

ومع حصول تونس على الاستقلال الداخلي، وتفجر الصراع داخل الحزب الدستوري الجديد بين تياري الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، وجد الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه مجبرًا على المشاركة في الصراعات الداخلية للحزب الدستوري، في حين رفض هو من قبل الارتباط بأي حزب سياسي كان. وقد تحالف بورقيبة مع الاتحاد ليحسم الصراع السياسي الداخلي، وللقضاء على منافسه بن يوسف. وكان دور الاتحاد العام التونسي للشغل مفصليًا، إذْ مكَّنَ الحزب الدستوري الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة من اجتياز أكبرأزمة شهدها في تاريخه حتى الاستقلال في سنة 1956. 

وبعد الانتهاء من تصفية آخر اليوسفيين كانت المسألة الملحة أمام بورقيبة وحزبه هي تصفية الحركة النقابية التي تضيق بها حدودها المرسومة لها في مؤتمرات هذا الحزب. وبدأت المعركة في المؤتمر الوطني السادس للاتحاد الذي عقد بتونس في أيلول (سبتمبر) سنة 1956. ومن الملاحظ أنّه في فترة الاستقلال، وأمام غياب الحزب السياسي المعارض، حاول أحمد بن صالح، باعتباره رئيس الاتحاد العام التونسي للشغل، ولما له من تطلعات سياسية اشتراكية ديمقراطية، تعبر عن مصالح البرجوازية الصغيرة الإصلاحية في الحزب الدستوري الجديد، جعل هذا الاتحاد منظمة نقابية سياسية، حين طرح فكرة تكوين حزب عمالي إصلاحي على غرارحزب العمال البريطاني. 

ويبحث الفصل الرابع، في جدلية الصراع بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة، سواء في عهد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، أو في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. 

 

الاتحاد والثورة 

غير أنّه مع انطلاقة الانتفاضة الشعبية من مدينة سيدي بوزيد يوم 17 كانون أول (دسيمبر) 2010، وضع الاتحاد العام التونسي للشغل كل ثقله في هذه الثورة عندما انتقل مركز ثقلها من منطقة الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقصرين)، ليأخذ بُعْدًا وطنيًا شاملاً. فكان ذلك التزاوج غير المفتعل بين النضال الاجتماعي والنضال الديمقراطي، الذي أسفر عن نجاح الثورة التونسية في إسقاط نظام بن علي في 14 كانون ثاني (يناير) 2011، باعتبارها ثورة من أجل الحرّية والكرامة، وفي سبيل بناء نظام ديمقراطي جديد للحياة السياسية التونسية. 

 

اتحاد الشغل منذ انخراطه في الثورة التونسية، عمل على محو الحقبة السوداء التي عاشها في ظل حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي



وفي الفصلين الخامس والسادس يبحث الكتاب في مرحلة الصراع بين الاتحاد العام التونسي للشغل وحركة "النهضة" الإسلامية، التي استلمت السلطة في تونس، بعد انتخابات 23 تشرين أول (أكتوبر) 2011. 

وذكر المديني أن "اتحاد الشغل منذ انخراطه في الثورة التونسية، عمل على محو الحقبة السوداء التي عاشها في ظل حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، واستعادة عافيته، وتوسيع قاعدته بوصفه القوة الوازنة الرئيسة في البلاد التي استقطبت حوله ليس المنظمات الأهلية فحسب، وإنما أيضا غالبية الأحزاب الصغيرة". 

ولما كان الاتحاد يمتلك شرعية النضال من أجل محاربة الفساد منذ سبعينيات القرن الماضي، والشرعية الاجتماعية كونه المنظمة النقابية الأعرق والأكبر عربيًا وأفريقيًا، كما ترى فيه النخب اليسارية والمدنية رمانة القبّان التي تحمي التوازن في البلاد، فقد دفع هذا الوضع قوى الإسلام السياسي لمحاولة استهدافه بعد العام 2011، سواء من خلال محاولة تشكيل منظمة بديلة سرعان ما حاصرها الفشل، أو بالاعتداء على مقارّه وضرب وحدته، وتشويه دوره الاجتماعي. 

وتعود مواقف الإسلام السياسي المعادية للاتحاد إلى نظرتها إليه بوصفه منظمة محسوبة على القوى اليسارية بمختلف تفرعاتها، وقوة لا يمكن تجاوزها في أية محاولة للسيطرة على مفاصل الدولة، وهو ما تأكد في سنة 2013 بعد اغتيال القياديين المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وانتشار ظاهرة الإرهاب في تونس، وتسفير الجهاديين التونسيين إلى القتال في سوريا، في لل تراجع هيبة مؤسسات الدولة. 

ويناقش الفصل السابع طبيعة الحكم المعولم الذي أفرز "الديمقراطية التوافقية" بين اليمين العلماني واليمين الديني. وباتت هناك مواجهة بين خطابَين متماسكَين في تونس. مؤيّدو الحكومة من اليمين الليبرالي واليمين الديني يرون أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل يجري التلاعب به وتوظيفه من بيروقراطيّته لأهدافٍ حزبيّة فئوية صرف، في حين من الأنفع له أن يكتفي بلعب دوره النقابي. 

أمّا المعارضون لنظام الخصخصة والعولمة الليبرالية في الاقتصاد، فيقولون إِنَّ على الاتحاد أن يكون مستقلاًّ، ويتدخّل بشكلٍ فعّالٍ في الحياة السياسية كَسُلْطَةٍ مُضَادَّةٍ. فيما بات الرأي العام في تونس يتعاطى مع الاتحاد العام التونسي للشغل كما لو أنه يتوجه إلى طرف سياسي معارض، ولعله كان مُدْرِكًا كما أدرك الذين من قبله أنّ الاتحادَ لا يُقْرَأُ فحسب من زاوية نقابية، فهو طرف اجتماعي يَخْتَزِنُ مجموعات ضغط سياسي، وتنويعات إيديولوجية، وناشطين حزبيين يساريين تمرسوا في ساحات النضال النقابي المطلبي، وكلّ هذا يَجْعَلُ من الاتحاد أحد الأطراف المفاتيح في أيّ معادلةٍ توافقٍ واستقرار ٍكما في أيّ ترتيبٍ سياسيٍ محتملٍ. 

أما باقي الفصول من الكتاب، الثامن، والتاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، فقد تركزت على دراسة طبيعة الصراعات التي خاضها الاتحاد العام التونسي للشغل، مع الحكومات التونسية المتعاقبة، ومع صندوق النقدالدولي. فقد عاش المشهد السياسي التونسي حربًا باردةً حقيقيةً بين الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل السيد نور الدين الطبوبي ورئيس الحكومة التونسية السيد يوسف الشاهد.

 

الخلاف مع حكومة الشاهد


ويعود جوهر الخلاف بين الاتحاد العام التونسي للشغل وحكومة يوسف الشاهد إلى شهر تشرين ثاني (نوفمبر) 2017، حين أبرم الطرفان اتفاقًا يلتزم فيه الاتحاد بمواصلة دعم الحكومة وعدم التشويش على قانون المالية لسنة 2018، مقابل تعهد الحكومة باحترام خطوط الاتحاد الحمراء ولا سيما منها عدم الزيادة في أسعار المواد الأساسية وعدم خصخصة مؤسسات القطاع العام، وهو اتفاق تجاوزه الشاهد.

ورأى المديني أن الأزمة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة، ليست في انتماء يوسف الشاهد البورجوازي واعتناقه مذهب العولمة الليبرالية في الاقتصاد، بل إنّ مشكلة الاتحاد تكمن تحديدًا مع الأحزاب التي تمارس "المراهقة السياسية" والأطراف التي تزين الخصخصة، وهذا ما جعله يدعو في الفترة الأخيرة إلى ضرورة شن الإضراب العام.

 


ويتحدث المرلف عن أن هناك شبه إجماع لدى تكوينات المجتمع المدني في تونس، على أن الصراع الحقيقي في تونس هو بين سياسة الاتحاد الرافضة للخصخصة والإصلاحات الاقتصادية المفروضة من جانب صنودق النقد الدولي، وبين الأطراف السياسية التي تدفع بالشاهد نحوها لا سيما من قبل الحزبين الكبيرين "النداء والنهضة"، وحزبي "آفاق تونس والوطني الحر" الشريكين في الإئتلاف الحاكم، بينما لا يزال الإتحاد العام التونسي للشغل يلعب دور الملجأ للمعارضة الديمقراطية التي تستجير به من هيمنة الأحزاب السياسية المدافعة عن الخصخصة والاندماج في نظام العولمة الليبرالية من موقع الطرف التابع والضعيف للدول الغربية والمؤسسات الدولية المانحة. 

ويرى المديني أن اتحاد الشغل يتقدم دفاعًا عن مؤسسات القطاع العام، والسيادة الوطنية للدولة التونسية، ورفض إصلاحات صندوق النقد الولي.

وقال: "بما أنّ تونس تعيش حاليًا مخاض ثورة ديمقراطية عميقة، وهي بصدد بناء نظامها الديمقراطي الجديد، الذي قوامه بناء دولة الحق والقانون، وإقامة تعددية سياسية حقيقية، وإقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة، فإنّ الاتحاد ازداد دوره النقابي والسياسي في زمن الانتقال الديمقراطي".

وأضاف: "يُعَدُّ الاتحاد العام التونسي للشغل من أبرز الفاعلين المعنيين بهذا التطور الاقتصادي وتأثيراته الاجتماعية والسياسية، فكما تتعرض الحكومة التونسية بمختلف أجهزتها لضغوطات وشروط صندوق النقد الدولي بشأن تطبيق الإصلاحات الاقتصادية، فإنّ الاتحاد هو الآخر ـ نظرًا إلى خصوصيته النقابية ـ يواجه تحدّيات مماثلة، حيث أصبحت الحماية الاجتماعية وضمان الحقوق الدنيا للعاملين تحديًا جسيمًا في ظل استشراء التجارة الموازية والاقتصاد غير المنظم، الذي ينخر الاقتصاد الوطني". 

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم