كتاب عربي 21

ثورة بسند صحيح

عبد الرحمن يوسف
1300x600
1300x600
في الذكرى المئوية لثورة 1919، يحق لنا بل يجب علينا أن نتساءل: ما الذي حدث؟

تجربة الجماعة الوطنية المصرية تبدأ من الصفر كلما أوشكت على النضج والاكتمال!

تعتبر تجارب الشعوب سلسلة طويلة متصلة السند من أولها لآخرها، واتصال هذا السند هو ما يضمن للأمم أن لا تمر بعصور من التيه الذي يغرقها في التجارب الفاشلة ذاتها، والأخطاء ذاتها.. اتصال السند هو ما يضمن أن تتعلم الأمة من تجاربها وأخطائها لكي تختصر عشرات السنين، وآلاف أو ربما ملايين الضحايا.

تعتبر تجربة ثورة 1919م نموذجا ملهما للثورات الناجحة، أو على الأقل للعمل الثوري الذي يستطيع أن يحقق جزءا كبيرا من مطالب الأمة، ويؤسس لحقبة سياسية جديدة تحصل الأمة من خلاله على ما تريده بالتدريج، تتقدم رويدا رويدا، ولكن بخطى ثابتة.

لقد ألقت هذه الثورة في تربة الوطن بذرة الاستقلال، وذلك من خلال مرسوم إلغاء الحماية الصادر في شباط/ فبراير 1922، وبذرة الدولة الحديثة من خلال إصدار دستور 1923، وهو ما أدى بعد ذلك إلى تولي سعد زغلول باشا رئاسة الوزراء في عام 1924م كأول رئيس وزراء منتخب في تاريخ البلاد.

لقد بدأت منذ تلك اللحظة تجربة تحول ديمقراطي مبكرة، ألهمت دولا كثيرة، فقد ألهمت هذه الثورة الوطنية غاندي في الهند، وألهمت ثورة العشرين في العراق، وثورة 1924 في السودان، وثورة 1925 في سوريا، وظلت تلهم كثيرا من حركات التحرر الوطني في شتى بقاع العالم.

* * *

كانت مصر في تلك الفترة دولة مستقرة، حديثة.. كانت ملجأ اللاجئين المضطهدين من أوروبا وإفريقيا وآسيا وتركيا وبلاد الشام، فهرب إليها كثير من الإيطاليين في عهد الفاشية الموسولونية، وهرب إليها من بلاد الشام، ومن أرمينيا، ومن كثير من البلدان الأوروبية؛ بسبب الفقر الناجم عن الحرب الأولى (برغم مشاركة مصر في تلك الحرب، إلا أن حالها كان أفضل من غالبية دول أوروبا).

أي أنه في الوقت الذي كانت تمر فيه أوروبا بتجارب استبدادية سيئة، كانت مصر تمر بمرحلة تحول ديمقراطي لا بأس به، ولو أنه استمر لكانت مصر اليوم في مكان آخر يقينا!!!

أعود إلى السؤال ذاته.. ما الذي حدث؟

ما الذي حوّل مصر من بلد في مقدمة الأمم الناهضة، إلى دولة تحت الأنقاض؟!

الجواب بسيط... لقد سارت الأمور إلى الأمام، برغم كل فساد النخب السياسية، برغم كل ألاعيب الملك وحاشيته، برغم كل جرائم الإنجليز، إلى أن حطت اللعنة على مصر ببدء حقبة الحكم العسكري في عام 1952 وما تلاها من خيبات!

هنا فقط، في هذه اللحظة فقط، انقطع سند الحركة الوطنية المصرية، وبدأت حقبة سوداء لا علاقة لها بما قبلها، فهي حقبة لها قوانينها الدنيئة الخاصة، ولها قوانين انحطاط ليست موجودة في أي ظرف تاريخي سابق.

ولا بد أن لا ننسى أن السبب الأساس في دخول مصر والوطن العربي لنفق الانقلابات العسكرية الملعون هو قيام دولة إسرائيل، وما زال وجود هذا السرطان سببا أساسيا لاستمرار الاستبداد في الوطن العربي.. كانت مقاومة إسرائيل حجة الأنظمة لسحق الشعوب، واليوم أصبح الحفاظ على بقاء إسرائيل هو السبب الحقيقي!

* * *

لقد كانت ثورة 1919م تشبه الثورة الفرنسية في أوروبا، فهل يمكن اعتبار ما حدث في عام 1952 ارتدادا أشبه بحكم نابليون؟

الحقيقة أن انحطاط النخب العسكرية التي حكمت مصر (والعالم العربي) لا يمكن مقارنته بحال من الأحوال بالحقبة النابليونية في فرنسا، ذلك أن هذه النخب لم تستلهم في تحركها أي مبدأ من مبادئ ثورة 1919 أصلا، بل كانت حريصة على قطع الصلة بتلك الثورة، وبعد وقت لا يكاد يذكر أصبح الحكم هو الهدف الوحيد، وأصبح الاحتفاظ بالسلطة هو غاية الغايات.

* * *

لقد عادت الجماعة الوطنية في عام 1952م إلى نقطة الصفر!

تغيرت معادلة التحرر من نضال ضد مستعمر أجنبي يرفع علم إنجلترا، إلى نضال ضد عصابة حقيرة من عساكر لا علاقة لكثير من قياداتها بالشرف العسكري، ولكنها ترفع كل شعارات الدين والوطنية والفداء والعروبة والإنسانية والاشتراكية، وكل المعاني الشريفة المتاحة في سوق السياسة عبر الأزمان المختلفة!

هذه التجربة الاستبدادية الفريدة ظلت عقبة أمام الجماعة الوطنية المصرية لمدة ستة عقود، إلى أن جاءت ثورة جديدة، هي ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011، وكانت بنت زمنها.

لم تكن ثورة يناير عنيفة مثل ثورة 1919، بل كانت فريدة في سلميتها، وكانت قادرة على تغيير جيل كامل من شباب الوطن. فمن اشترك في فعاليات ثورة يناير أكثر بكثير من الذين شاركوا في عام 1919، وفعاليات الثورة في 2011 استمرت فترات طويلة جدا مقارنة بما حدث في 1919، فهذه الثورة التي انطلقت في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011 ما زالت لها فعاليات حتى اليوم، بعد أكثر من ثماني سنوات.

* * *

السؤال الأكبر في هذه اللحظة، وفي مئوية ثورة 1919، بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013: هل انقطع السند مرة أخرى؟

إجابتي الشخصية.. أن السند ما زال متصلا، وما زالت التجربة حية، بانتظار النخبة التي تستطيع أن تفهم واقعها، وأن تدرك ما تحتاجه الأمة للتقدم إلى الأمام.

إن جيل يناير لم ينته، ولكن في الوقت نفسه لم يكتمل نضجه، ومن الطبيعي لجيل كهذا رأى الأمل، ورأى السجون، ورأى القتل والمشانق.. من الطبيعي أن يخرج منه من هو مؤهل للقيادة، ومن هو قادر على أداء رواية الثورة بسند صحيح.. ولا أقول إنا لمنتظرون، بل أقول إنا لعاملون من أجل ذلك اليوم، وما هو عنا ببعيد.

* * *

تعليق على المجزرة:

دخل شاب أسترالي مسيحي متطرف إلى مسجد النور في مدينة كرايست تشيرتش، وقتل بدم بارد عشرات المصلين المسلمين المسالمين.

هذا الشاب الإرهابي لم يقرأ ابن تيمية، ولا تأثر بأحاديث البخاري، ولم يحفظ آيات الجهاد في القرآن الكريم، بل هو متشبع تماما بالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.. هل هو إرهاب مسيحي؟

الحقيقة أننا لا نطلب من أحد أن يصف المسيحية (أو أي دين) بالإرهاب، بل كل ما نطلبه أن يكفوا عن إلصاق تلك التهمة بديننا.

أما دورنا نحن المسلمين فهو على مسارين.. المسار الأول: إعادة كرامة المواطن المسلم في بلادنا الإسلامية، ولن يحدث ذلك إلا بإسقاط أنظمة الاستبداد.

والمسار الثاني: هو توظيف هذه المجزرة للتعريف بالإسلام الحقيقي، ولفضح كل المتطرفين الذين يحرضون على المسلمين.. بدءا من "سيسي"، و"ابن زايد"، و"ابن سلمان" وغيرهم، وصولا إلى أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا.

رحم الله الضحايا، وتقبلهم في الشهداء، وألهم ذويهم الصبر، وأعاننا جميعا على توضيح الحقيقة، وتغيير هذا الواقع المظلم.

موقع الكتروني: www.arahman.net
بريد الكتروني: [email protected]
التعليقات (1)
محمد احمد الزهيرى
الأربعاء، 10-04-2019 12:44 ص
الدستور باطل