هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أقفل
عام 2018 صفحاته وزعماء أهم ثلاث دول غربية يعيشون أزمات حادة كل بطريقته،
ويواجهون تحديات كبيرة تثير تساؤلات مهمة: هل سيصمد زعماء الولايات المتحدة
وبريطانيا وفرنسا أمام الرياح العاتية، التي تكاد تقتلعهم من جذورهم وتطوح بهم إلى
هامش التاريخ؟ لقد ذهب العديد من المحللين والكتاب للبحث في مسألة أبعد من أزمة
القيادات، وراح يسأل أهي أزمة أيديولوجية اليمين المتطرف؟ أم أزمة الرأسمالية
الانعزالية المنفلتة من كل عقال، والتي تزيد الثريّ ثروة وتجعل الفقير أكثر فقرا
ويأسا؟ ربما هي أزمة الديمقراطية الغربية بشكل عام، حيث تعبر مرحلة الشعبوية التي
تساعد زعماء كهؤلاء للوصول إلى سدة الحكم، وتعكس أزمة يعيشها الناخب الغربي الذي
لم يعد يثق بالمؤسسات السياسية التقليدية وبدأ يخرج عن النص وينتخب قيادات غير
عادية يعتقد أنها ستنقذه من أزماته الاقتصادية والأمنية والسياسية.
هذا ما نشهده الآن في الدول الرأسمالية الثلاث الأكبر: الولايات
المتحدة وزعيمها الأكثر غرابة في التاريخ، دونالد ترامب، وبريطانيا وزعيمتها
تيريزا ماي، التي تحاول فرض برنامجها للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وفرنسا
وزعيمها الشاب، إيمانويل ماكرون، الذي يواجه ربيعا فرنسيا منذ 17 نوفمبر/تشرين
الثاني. فما هي حكاية هذه الزعامات غريبة الأطوار وأين سينتهي بها المطاف أمام هذه
الأزمات؟
أود في البداية أن أؤكد أن قوة هؤلاء القادة الثلاثة جاءت من شعوب
انتخبتهم إلى سدة الحكم ولم يصلوا البيت الأبيض وقصر باكنغهام والأليزيه على برج
دبابة أو عن طريق التوريث، بعد أن قضى الوالد ردحا من الدهر في الحكم، أو عن طريق
الدعم الخارجي مقابل المال والامتيازات. فرغم ما نشهده من عمق الأزمة التي يعيشها
كل زعيم بطريقته الخاصة، إلا أنهم ما زالوا يحكمون ولا يخشون من قيام ضابط طموح
بإعلان حالة الطوارئ وإصدار البيان رقم 1.
ترامب والرهان على سقوطه
ترامب هو أغرب الزعماء الثلاثة وأكثرهم عرضة للسقوط في أي لحظة، بل
من العجب أنه تخطى عامه الثاني في البيت الأبيض، رغم كل ما كشف عنه من تسريبات
ووقائع وأخطاء استراتيجية وفضائح واستقالات وممارسات عنصرية. ظل يتفاخر بانتعاش
سوق الأسهم بعد انتخابه وكأنه من فعل يديه، لكن سوق الأسهم عاد وانهار وكأنه قفزة
غواص إلى القاع، وهذا التراجع هو الأسوأ منذ عام 1931، وتفاخر بانتعاش الاقتصاد
بسبب حنكته ومعرفته بالسوق، لكن العجز المالي في ميزانية الدولة هو الأعلى منذ عام
2012، والعجز في التجارة الخارجية هو الأسوأ منذ عشر سنوات. أغضب الحلفاء كلهم
وقام بإغلاق الحكومة، لأن مجلس النواب لم يقبل تمويل بناء جدار عازل مع المكسيك،
على الطريقة الإسرائيلية، تزيد تكاليفه على الخمسة مليارات دولار، تاركا نحو
800000 موظف بدون راتب.
تخلى عنه كل الذين وصلوا معه إلى البيت الأبيض وكان آخرهم جيمس ماتيس
وزير الدفاع، الذي كان يوصف بآخر صوت عقلاني في إدارته، حتى أنه أصبح في حيرة لا
يجد من يريد أن يخدم في وزارته. لقد كان وحيدا معزولا أيام أعياد الميلاد ورأس
السنة الجديدة، فهرب إلى بغداد ليختبئ هناك، كما أشارت محطة «سي أن أن» قائلة:
«وحيدا في البيت الأبيض ويلجأ إلى تويتر». رجل لا يثق به أحد ولا يثق بأحد. ينقلب
على نفسه بين يوم وليلة، لا يستقر على موقف وليس له صديق ولا يستمع إلا للثلاثي
الصهيوني المحيط به غرينبلات وكوشنر وفريدمان، حتى لو كان في قراراته انتهاك للقانون
الدولي، كما فعل في مسألة القدس وغيرها. لقد ألحق بدور الولايات المتحدة ضررا من
الصعب إصلاحه، فأخرجها من معظم الاتفاقات الدولية كاتفاقية المناخ واتفاقية وقف
إنتاج وتجارب الأسلحة الباليستة متوسطة المدى، كما انسحب من اليونسكو ومن الشراكة
عبر المحيط الهادئ واتفاقية الدول الست مع إيران، واتفاقية فيينا للعلاقات
الدبلوماسية. بقي ترامب وحيدا ولا نستغرب أن يطاح به إذا ما استمرت التحقيقات حول
تدخل الاتحاد الروسي في الانتخابات الرئاسية عام 2016.
تيريزا ماي والخروج القسري من الاتحاد الأوروبي
رغم خطابها العاطفي مساء الثلاثاء الماضي، فشلت تيريزا ماي في إقناع
البرلمان البريطاني بالتصويت لصالح الاتفاقية التي توصلت إليها مع الاتحاد
الأوروبي بعد سنتين من المفاوضات. يبدو أن رئيسة الوزراء لا تعرف أن الوضع
الاقتصادي في المملكة المتحدة في تراجع، كما تشهد الاستثمارات في البلاد بطئا
كبيرا، والعجز في الميزان التجاري ما فتئ يتسع باستمرار. بقيت تيريزا ماي ملتزمة
بنتائج الاستفتاء الذي أقرته غالبية الشعب البريطاني بالانسحاب من الاتحاد
الأوروبي (بريكست) في يونيو/حزيران 2016 بنسبة 51.9 % فقط والذي يحين موعد تنفيذه
في 29 مارس/آذار 2019 المقبل.
صاغت ماي وفريقها المفاوض اتفاقية عاجلة للانسحاب بشروط غير مقبولة
لا للاتحاد الأوروبي ولا للبرلمان البريطاني. الفريق المفاوض توصل إلى صفقة رديئة
لا ترضي أحدا، ما أثار البرلمان وصمم العديد من النواب على معارضة الصفقة الرديئة،
حتى حلفاؤها من الاتحاد الديمقراطي الأيرلندي. ورغم مناشدتها العاطفية «للتمسك
بالاتفاقية من أجل الوطن والأجيال المقبلة»، إلا أن نتيجة التصويت على صفقة بريكست
كانت هزيمة مدوية، حيث عارضها 432 نائبا مقابل 202، وهو ما اعتبر أكبر هزيمة لرئيس
وزراء بريطاني في تاريخ البلاد، ما دعا رئيس المعارضة لأن يطالبها بالاستقالة فورا.
لكن تيريزا ماي استطاعت أن تتجاوز الخطر في جلسة طرح الثقة في
حكومتها من قبل البرلمان مساء الأربعاء، حيث فازت بإعادة الثقة في حكومتها بفارق
بسيط (325 إلى 305). هذا يعني أنها ستسمر في الحكم، ما يعني أن البرلمان معترض تماما
على اتفاقية الخروج ومنقسم تقريبا نصفيا على بقاء رئيسة الوزراء في منصبها. وأمام
هذه الأزمة فستجد تيريزا ماي أن أمامها واحدا من خيارات ثلاثة: الخروج من الاتحاد
الأوروبي يوم 29 مارس/آذار، بدون اتفاق. وهذا الخيار ستكون له تبعات اقتصادية
وتجارية هائلة، أو أن تطلب من الاتحاد الأوروبي تأجيل الخروج البريطاني وإعادة
المفاوضات حول اتفاقية جديدة مع الاتحاد، أو أن يعاد طرح موضوع الانسحاب من
الاتحاد الأوروبي برمته عبر استفتاء جديد، بعد أن خرج الشعب البريطاني من تأثير
الدعاية بفوائد الانسحاب من الاتحاد على بريطانيا. وبالتأكيد ستكون الأيام
والأسابيع القليلة المقبلة حاسمة بالنسبة لمستقبل ماي السياسي وعلاقة بلادها
بالاتحاد الأوروبي.
ماكرون والنزول عند إرادة المحتجين
في 17 نوفمبر الماضي بدأت حركة احتجاج قوية في فرنسا يقودها طيف واسع
من ممثلي الطبقات الوسطى والفقيرة والمتقاعدين في ائتلاف أطلق على نفسه اسم «أصحاب
السترات الصفراء» لتمييز أنفسهم بألوان فاقعة على طريقة عمال البلدية. انطلق
التجمع الذي تم تشكيله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، للمطالبة بإلغاء ضريبة جديدة
على المحروقات. معظم المحتجين يعتمدون على التنقل بسياراتهم الخاصة من الضواحي إلى
المدن للوصول إلى أعمالهم. فارتفاع الضرائب على الديزل كان الشرارة في إطلاق
الاحتجاجات. ورغم أن ماكرون أدرك الأزمة مبكرا فألغى الضرائب، إلا أن حركة
الاحتجاج توسعت لتشمل تحسين ظروف الحياة المعيشية، واحترام حقوق الناس الاقتصادية
والاجتماعية، وإعادة الضريبة الملغاة على رؤوس الأموال الكبيرة. وقد تحولت تلك
الاحتجاجات مع الوقت إلى غضب هادر بدأ يستهدف المحلات التجارية والمرافق العامة
والمواقع الأثرية والرمزية، مثل قوس النصر وغيرها، حيث سقط عدد من المحتجين قتلى
وجرح نحو 700 شخص واعتقل نحو 1500 متظاهر.
وقد سخر ماكرون من الذين راحوا يقارنون بين تلك الاحتجاجات السلمية
في شوارع باريس والاحتجاجات في شوارع العرب، التي جوبهت بالرصاص في السابق في تونس
والقاهرة وبنغازي وصنعاء ودمشق والمنامة، واللاحق منها كما نشاهد الآن قوات عمر
البشير في السودان تطلق الرصاص على المحتجين، وقد سقط لغاية كتابة هذا المقال 37
ضحية عدا مئات الجرحى والمعتقلين. لقد تراجع ماكرون عن إصراره، وألغى كل الإجراءات
الاستثنائية ودعا إلى مؤتمر حوار وطني لمناقشة كافة القضايا التي بحاجة إلى حل.
لكن حركة الاحتجاجات ستستمر كما يتوقع العالمون بالشأن الفرنسي، فالشعب الفرنسي
شعب عنيد وإذا ما صمم على شيء لا يتراجع، وماكرون لن يكون أقوى أو أكثر شعبية من
ديغول، الذي أسقطته مظاهرات الطلبة عام 1968.
يبدو أن رياح التغيير تهب على الدول الديمقراطية العريقة، فنحن أمام
ظاهرة تجتاح العالم تلجأ إلى انتخاب المرشحين الذين يثيرون حمية الوطنية والتطرف
اليميني والسياسة الأحادية والشعبوية التي تقدم وعودا لا حلولا. ننتظر تحركات
واسعة في أكثر من بلد عام 2019 وما بعده، أما رياح التغيير فلا دخل لبلداننا
العربية فيها، فرؤساؤها وملوكها وسلاطينها ثابتون في كراسيهم ويغيرون الدستور بدل
تغيير الحاكم، خوفا على بلدانهم من الضياع واليتم. إنهم بشر منزهون عن الخطأ بعيدة
عن الشر أعينهم سريعة إلى الخير أرجلهم لا ينامون على ضيم ولا يقبلون أن يحتل
الأجنبي أرضهم، أو يجرف أموالهم أو يدمر أشقاءهم، وإذا ما خرجت مظاهرة ضد أحدهم
فهي مؤامرة ضد الوطن من الإرهابيين العملاء الذين يسعون إلى خراب الوطن وقيادته
الملهمة والواجب الشرعي تدميرهم، فطاعة ولي الأمر واجبة حتى لو طغى أو تجبر. وكان
الله بعون أمتنا المنكوبة.
عن صحيفة القدس العربي