مقالات مختارة

اغتيال بن بركة ومحاكمة التاريخ

محمد قيراط
1300x600
1300x600

المهدي بن بركة المناضل والثوري المغربي وأول من فكّر في قمة القارات الثلاث -أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية- والمعارض للنظام الملكي في المغرب، ظلمته المخابرات الفرنسية والمخابرات الأمريكية والنظام الملكي في المغرب. ولم يرحم الطغاة أهله في إعطائهم الفرصة للحصول على جثته ودفنها حتى يتسنى لهم زيارة ضريح المرحوم كباقي العباد.

في صباح 29 أكتوبر 1965، كان المهدي بن بركة على موعد مع مخرج سينمائي فرنسي أمام مطعم ليب في شارع سان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية، لإعداد فيلم حول حركات التحرر، وكان هذا المخرج مشاركًا في سيناريو الاختطاف. تقدم رجلا شرطة فرنسيين إلى بن بركة وطلبا منه مرافقتهما في سيارة تابعة للشرطة. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن اختفى أثر بن بركة ورسمياً لم يعرف إلا ما أدلى به الشرطيان أمام المحكمة، حيث اعترفا أنهما خطفا بن بركة بالاتفاق مع المخابرات المغربية وأنهما أخذاه إلى فيلا في ضواحي باريس حيث شاهدا الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية المغربية آنذاك ومعه أحمد الدليمي مدير المخابرات المغربية وآخرين من رجاله وأن بن بركة توفي أثناء التحقيق معه وتعذيبه.

لمدة 53 سنة والغموض والتضليل والصمت التام خيّم وما زال يخيم على قضية المهدي بن بركة، أكاذيب رسمية، وعود لم تنفذ خاصة تلك التي وعد بها الجنرال ديغول والدة المناضل المعارض المهدي بن بركة، تصفيات جسدية لغالبية من كانت لديهم أدنى معلومة عن الاختطاف والاغتيال والتذويب في حوض الأسيد. إنها قضية دولة بأمر من النظام الملكي المغربي وتواطؤ الحكومة الفرنسية والمخابرات المركزية الأمريكية، عملية اغتيال تبقى وصمة عار على كل من شارك في تنفيذها كأفراد أو كدول.

وإذا انطلقنا من المبدأ الميكيافيللي الذي يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، فإن هذه الأعمال ليست غريبة على فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية وغيرهم كثير من أنظمة ودول وأجهزة مخابراتية. النظام المغربي جنّد وسخّر كل ما يمتلكه من قوة لتمييع القضية وطمسها ومسحها نهائيا من الذاكرة الجماعية للشعب المغربي وكل من يفتخر برجالات النضال والكفاح من أجل العدالة واحترام حقوق الإنسان ولو كلف ذلك أرواح العديد من الأشخاص والمسؤولين ومن جنسيات مختلفة وكذلك ميزانيات ضخمة.

الصحافة المغربية ونستطيع القول العربية قاطبة لم تتفكر بن بركة ولم تؤرخ له ولم تنصفه وراحت تتجاهله لما يزيد على 35 سنة، وبعد كل هذه الفترة جاء التاريخ ليسلط بعض الأضواء على اغتيال زعيم تعدى الوطنية والعروبة والقومية وناضل من أجل البشرية جمعاء، من أجل المحرومين والمساكين والمضطهدين في العالم بدون تفضيل ولا تمييز.

جاء الـ 29 من يونيو سنة 2001 لتنشر جريدتا "لوموند" الفرنسية و"لو جورنال" المغربية شهادات أحمد بوخاري العميل المتقاعد في المخابرات المغربية للكشف عن تورط كل من المخابرات الفرنسية وجهاز المخابرات الأمريكية والمخابرات المغربية للتخلص من المعارض مهدي بن بركة. شهادات بوخاري جاءت لتحييّ ذاكرة الرأي العام المغربي والعربي بشأن شخصية تاريخية اغتيلت وطمست ذاكرتها وتاريخها. فلمدة 53 سنة ضاعت قضية المهدي بن بركة في دهاليز النسيان والقمع والتجاهل والنسيان المنهج.

من هو الذي قتل المهدي بن بركة؟ ولماذا؟ ما هي الأسباب والدواعي؟ لماذا تورط الأجهزة الفرنسية والمخابرات الأمريكية والمخابرات المغربية؟ أين هي جثة المرحوم؟ أسئلة بقيت عالقة لمدة 53 سنة بدون إجابة؟ وشاءت الأيادي المجرمة أن تتخلص من معظم الشهود والأشخاص الذين نفذوا الجريمة سواء كانوا مغاربة أو فرنسيين أو غيرهم. شهادة العميل السابق في المخابرات المغربية تقول إن المهدي بن بركة تم تعذيبه حتى الموت في فيلا في "فونتوني لو فيكومت" من طرف الجنرال أوفقير الذي كان آنذاك وزيرا للداخلية في عهد الملك الحسن الثاني وبنائبه القائد ديلمي. وبعد ذلك نقلت جثة المعارض إلى مطار أورفلي ومن ثم إلى المغرب حيث تم تذويبها فيما بعد في حوض من الحامض، وبذلك انتهي بن بركة وتاريخه وانتهى كل أثر لأي شيء له علاقة بالمعارض.

بالنسبة للغالبية العظمى من المغاربة اسم المهدي بن بركة لا يعني شيئا وهذا لعدة اعتبارات منها أنه حتى الساعة لم تخصص وسائل الإعلام المغربية سواء كانت محطات تلفزيونية أو إذاعية أو صحف أو مجلات أي برنامج أو تحقيق أو موضوع حول القائد الاشتراكي بن بركة.

الشباب المغربي لا يعرف عنه شيئا لأن اسم بن بركة مشطوب من كتب التاريخ، وحتى القلة القليلة التي ترتبط سياسيا وعضويا بالتاريخ النضالي الاشتراكي الحافل للزعيم لا تجرؤ أن تتكلم أو تكتب عن المرحوم. فحزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية يطالب دائما ويفتخر بالإرث الذي خلّفه المهدي بن بركة.

لماذا اغتيل المهدي بن بركة؟ ولماذا سعت فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والملك الحسن الثاني إلى التخلص من المناضل اليساري العالمي؟.. الفكر السياسي لمهدي بن بركة كان ينبعث من الحركة الثورية في العالم الثالث، حركة التخلص من الاستعمار وإقامة نظام دولي جديد وتعايش سلمي لا تتحكم فيه القوى الاستعمارية والرأس المال العالمي، وإنما دول العالم الثالث التي تشكل أكثر من 75 بالمائة من سكان المعمورة. بن بركة مع اميلكار كابرال وتشي جيفارا وغيرهم كانوا يخططون للقمة الثلاثية العالمية التي تجمع زعماء وقادة القارات الثلاث إفريقيا، آسيا وأمريكا اللاتينية من أجل وضع أجندة لتصحيح النظام العالمي والتخلص من أباطرة الإمبريالية، وشاءت الأقدار أن يُنظم المؤتمر بدون بن بركة الذي اغتيل والذي كان من المفروض أن يترأس أعماله.

كان رحمه الله مفكرا ومخططا واستراتيجيا من الطراز الأول وقدم أفكارا ودراسات وتحاليل حول تنظيم السلطة والتعليم والإصلاح الزراعي. يبقى اسمه مسجلا في الذاكرة الجماعية كمناضل من أجل الحرية ليس للشعب المغربي فقط، وإنما لكل شعوب العالم التي تؤمن بالعدالة الاجتماعية وبحقوق الإنسان وكرامته وإنسانيته. أسس الحزب الرئيسي في المعارضة حزب الاتحاد الوطني للقوى الشعبية الذي أصبح فيما بعد الحزب الاشتراكي للقوى الشعبية.

الحقيقة عن اغتيال المهدي بن بركة التي غابت وغيّبت لمدة 53 سنة تأتينا هذه المرة من مغرب محمد السادس، هذه الحادثة تعكس مرحلة انتقالية مهمة جدا في تاريخ بلد أراد شعبه وملكه أن يواجه الماضي المؤلم، والمخجل لبناء المستقبل. الحقيقة هي أم الفضائل والاعتراف بها فضيلة.

يبقى على الجانب الفرنسي وغيره من الأيادي الخفية التي دبّرت واختطفت واغتالت ليس بن بركة فقط، وإنما مئات بل آلاف المناضلين والمدافعين عن الفقراء والمساكين والمحرومين أمثال سلفادور أليندي، وشتى جيفارا وباتريس ومومبا والدكتور مصدق وموريس أودان والعربي بن مهيدي وغيرهم كثيرون.

عن صحيفة الشرق القطرية

0
التعليقات (0)