هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: التصوف في سياق النهضة: من محمد عبده إلى سعيد النورسي
الكاتب: الدكتور محمد حلمي عبد الوهاب
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت- كانون الثاني/ يناير 2018
يُمثّل التصوف في أحد تعريفاته الأولية نمطا من المجاهدة والرؤية النفسية ، التي قد يرافقها سلوك عمل جسدي، في حين يُراد منها أن تستجيب لحاجات التصوّف الروحية والنفسية والمجتمعية العامة، وهو بوصفه نتاجًا ذهنيًا، نُظر إليه على أنه مادة متممة للفلسلفة.
كيف نشا التصوف في الفكر العربي الإسلامي؟
هناك اعتقاد سائد بأن التصوف العربي الإسلامي يقوم على التمسك بالشريعة الإسلامية من ناحية، أو على القول بأنه يجد معياره في السنة من ناحية ثانية، أو أنه يجسد حالة مرضية من ناحية ثالثة، إضافة إلى وجهة النظر الرابعة القائلة بأن التصوف المذكور، الإسلامي العربي، إنما هو ذو مرجعية هندية أو فارسية أو صينية أو مسيحية.
إن مثل هذا الاعتقاد هو مثل الذي يبحث عن التصوف خارج تاريخيته، وخارج خصوصيته التكوينية البنيوية. غير أن التصوف العربي الإسلامي وضمن سياق المثاقفة التاريخية مع الفلسفات الهندية والفارسية واليونانية التي ظهرت في حضارات متعددة ، تأثر بها، بطرق مباشرة، لا سيما أنه في مراحل متعددة من التاريخ العربي الإسلامي التقت أنماطا مختلفة من ثقافات الشعوب والمجموعات البشرية عن طريق الإسلام، أي عن طريق هؤلاء بعد تحولهم إلى الإسلام.
في إطار البحث عن موقع التصوف الإسلامي في سياق النهضة ككل، لا نجد دراسات نظرية اعتنت بهذا الجانب الحيوي من التصوف. وما يزيد من أهمية التوقف عند هذه الملاحظة الأولية، مقارنتها بحقيقة أن المجددين في الأرض ـ خاصة أتباع مدرسة الإمام محمد عبده (1266 ـ 1323هـ/1849 ـ 1905م)، لم يغفلوا التصوف كمنحى وكبعد مهم جدا من أبعاد النهضة الشاملة، وإنما أدركوه وأولوه عناية كبرى، حيث لفتوا الانتباه إلى مركزية هذا المكون الروحي العميق أولا، وعملوا على تأكيد أصالته ثانيًا، ووجهوا بعضًا من تلامذتهم نحو تحقيق نصوصه، والرد على مزاعم المستشرقين التي تنزع الأصالة عنده ثالثًا.
التصوّف وسؤال النهضة
في كتابه، الذي يحمل العنوان التالي: "التصوف في سياق النهضة"، والذي يتكون من مقدمة وخمسة فصول، وخاتمة، ويحتوي على 163 صفحة من القطع الكبير، يقدم لنا الباحث الدكتور محمد حلمي عبد الوهاب دراسة معمقة عن موقع التصوف في سياق ما يسمى "عصر النهضة"، حيث يقول إن ثمة أسبابًا دفعت برواد النهضة الحديثة إلى التصوف ـ علمًا وممارسة ـ يأتي في مقدمتها:
أولاً: ما ناله أغلب هؤلاء الرواد على سبيل المثال: (مرتضى الزبيدي، وحسن العطار، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا) من تربية روحية عالية إبان نشأتهم الأولى، إذ اانضموا إلى طرق صوفية شهيرة: كالوفائية، والخلوتية، والشاذلية، الخ.
ثانياً: إيمان هؤلاء الروَّاد بأهمية هذا المنحى الروحيِّ العميق في عملية النهضة الإسلامية المرجوّة. ويكفي للتدليل على ذلك، أن نذكر ـ على سبيل المثال أيضاً ـ الاقتراح الذي اقترحه الإمام محمّد عبده، عندما يئس من إحداث التغيير عن طريق الإصلاح السياسيّ الثوريّ ـ على طريقة أستاذه الأفغانيّ ـ ومفادّه: أن يختار مجموعة من الشباب يربّيهم وفق المنزع الصُّوفيِّ.
يقول الإمام بشأن ذلك: "إذا يئستُ من إصلاح الأزهر؛ فإنني أنتقي عشرة من طلبةِ العلم وأجعل لهم مكاناً عندي في عين شمس أُرَبِّيهم فيهَا تربية صوفية مع إكمال تعليمهم". وكان قد اقترح هذا الأمر على أستاذه الأفغانيِّ أيام كانا يُنشئان مجلة العُرْوَة الوُثْقَى في باريس. ويُعَقِّب محمد رشيد رضا على ذلك بالقول: "ولو تمَّ للأستاذ الإمام هذا على الوجهِ الذي يُريدُه؛ لكان أعظَمَ أعماله فائدة"!
وفي مقالةٍ له بعنوان "الأزهر والإصلاح"، أكدَّ الإمام أنَّ نفسَهُ قد توجَّهَت إلى إصلاح الأزهر منذ أنْ كان "مجاوراً" فيه، وأنه قد شرع في ذلك بالفعل، لكن حِيْلَ بينَهُ وبينَ ما أراد، مِثلما فشَلَ في إقناع الشيخ محمَّد الإنبَابيِّ ـ شيْخ الأزْهَر آنذاك ـ بتدريس مُقدِّمةِ ابن خلدون فيه! مُعقِّباً على ذلكَ بالقول:
"إنَّ بقاءَ الأزهر مُتداعياً على حاله في هذا العصْر مُحَال. فهو إمَّا أنْ يُعَمَّر، وإمَّا أنْ يتم خرابُه. وإنني أبذُلُ جهد المستطيع في عمرانه؛ فإنْ دفعتني الصَّوارفُ إلى اليأس من إصلاحه، فإنني لا أيأسُ من الإصلاح الإسلامي؛ بل أترك الحكومة وأختار أفراداً من المستعدّين، فأربّيهم على طريقة التصوَّف التي رُبّيتُ عليها؛ ليكونوا خلقاً لي في خدمة الإسلام".
ثالثاً: في ما وقر في أذهان الكثيرين من أنَّ أذواق الصوفية وأحوالهم ما هي إلاَّ لونٌ من ألوان الهذيان ليْس إلاّ! وأنَّ التصوُّف الإسلامي يمثل إحْدى الانتكاسات الرجعيّة الكبرى في مسيرة الحضارة الإسلامية! ولو أنَّ هؤلاء جميعاً "التزموا حدود القصد والاعتدال في أحكامهم، وأنعموا النَّظر في ما أُثر عن المُتصوفِة من أذواق وأحوال، وما خلَّفُوهُ من آثار وأقوال، ودرسوا هذا كله في ضوء المنهج العلمي الصحيح، لغيروا رأيهم ولوجدوا في مواجيد الصوفية وإشاراتهم وعباراتهم رموزاً لتعبيرات عن حياة روحية راقية، وحالات نفسية رائعة، ومذاهب فلسفية منطوية على كثير من المبادئ والمعاني ليست أقل قيمة من المذاهب الفلسفية الخالصة المؤسسة على النظر العقلي والاستدلال المنطقي، ولتبيّنوا أنَّ للعاطفة منطقاً كمَا أنَّ للعقل منطقاً كذلك".
التصوّف بريء
رابعاً ما لحق بالطرقية الصوفية من تجاوزات خطيرة دفعت رُواد النهضة إلى إثبات أن مظاهر الانحطاط التي صاحبت سيادة الطرق الصوفية على البنية الثقافية الإسلامية لا دخل للتصوف الحقيقي بها؛ فالبدع والخرافات والرقص مجرد عوارض مصاحبة للجهل وليس للتصوف. وأن التصوف الحقيقي هو المبحث الأخلاقي لفلسفة المسلمين، وهو مستمد ـ بطبيعة الحال ـ من التعاليم القرآنية، وسنة النبي، وزهد الصحابة والتابعين.
على أن الجماعات الصوفية، في صميمها، ليست كما يبدو من ظاهرها المشوه؛ وإنما هي امتداد لحركة روحية سياسية سارت في العالم الإسلامي من قديم، وأدت فيه دوراً خطير الشأن، وربما جاء عليها وقتٌ كانت تتجلى فيها ـ وفيها وحدها ـ كل حركة المقاومة للغارة الأوروبية على العالم الإسلامي منذ قرن ونصف القرن من الزمان؛ فهذا التخلف الحاضر المعروف اليوم، لا ينبئ عن الماضي الذي يستر أعين الناس، وأحياناً أعين الفرق الصوفية نفسها.
كما أن هذه الجماعات، هي التي دأبت على نشر الدين الإسلامي في القارة الأفريقية من نحو مئة عام، وروادها ـ وعلى الأخص الطريقة السنوسية ـ نشرت الزوايا والمساجد على خط عمودي يمتد من برقة في الشمال حتى يصل إلى جنوب خط الاستواء بمسافة كبيرة. وهي التي قاومت حركة تبشير القارة السوداء بالمسيحية مقاومة عنيدة، انتهت بأن تحوّل أكثر من ثلاثة أرباع وسط أفريقيا من وثنيين ومسيحيين إلى الإسلام !
وأخيراً ـ وليس آخراً ـ فإنّ هذه الجماعات هي التي أمدّتْ حركات المقاومة في شمال أفريقيا ضد الاستعمار الفرنسي بكل عناصر البطولة والثبات، التي لم تفقد الأمل في النصر مهما اشتد الخطر، وتفاقم الكرب. وهي التي قامت ـ تحت زعامة المهدي في السودان ـ بثورتها الشهيرة، وصنعت الأعاجيب.
خامساً : ما نشأ ـ لاحقاً ـ من حركة استشراقية ردت التصوف الإسلامي إلى أصول غير إسلامية: يونانية، وهندية، ومسيحية، ويهودية.. الخ. ما استدعى ضرورة تأصيل الرواد للحياة الروحية في الإسلام من جهة، وتوضيح حدود التأثير والتأثر في هذا الحقل الروحي المهم من جهة أخرى.
دور نخبوي أساسي
ولأجل كل هذه الأسباب مجتمعة، فقد ركز الباحث على النخبة المثقفة الواعية من رواد النهضة؛ نظراً إلى كبير دورها، وإلى سردياتها في الإصلاح والتجديد والإحياء، وخبرتها بنبض العصر الذي تعيش فيه، وتفاصيل حاجاته وسائر شؤونه؛ ليبدأ التحضير والتمهيد لتصحيح الخلل، وإعادة البناء، عبر حشد الطاقات وتوجيهها نحو الصواب.
ويذكر الباحث محمد حلمي عبد الوهاب، استنادّا إلى ما قدمه الشيخ مصطفى عبد الرازق في كلمته أثناء الاحتفال بإحياء ذكرى الأستاذ محمد عبده بدار الجامعة المصرية سنة 1922، والتي عنونها بـ"ترجمة الأستاذ الإمام"، عن تصوف الإمام محمد عبده، بأن هذا الأخير بقي متصوفًا حتى آخر حياته. فقد تأثر الإمام محمد عبده بالشيخ درويش خضر، الذي كان نقطة تحول كبرى في حياته.
وعن ذلك، يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق: "فإن ذلك الشيخ الصوفي (درويش خضر)، الذي أخذ بزمام الجانب الروحي من تلميذه الفتى في عنفوان ثورة نفسية، قد وجه عواطف الشاب وخيالاته إلى معان من اللذائذ القدسية". وفي الأحوال كلها، فإن تعاليم الشيخ درويش خضر، كان "من شأنها أن تربي الوجدان، وتلطف السر، وتكمل النفس وتزينها، ولاجرم كان الشيخ محمد عبده صوفي الأخلاق". كما تأكد أنّ للشيخ درويش خضر الأثر الأكبر في إعادة توجيه محمد عبده لحظيرة العلم والمعرفة ،إلى درجة يمكننا القول معها القول ـ ومن دون مبالغة ـ إنه لولا الشيخ درويش خضر لعاد محمد عبده إلى قريته وربما أصبح شخصًا عاديًا من أحادي الناس.
وبذلك يتضح لنا أيضًا، أن هذا الشيخ الصوفي درويش خضر، قد اتبع استراتيجية ذات أبعاد ثلاثة في ترويض الشاب الفتى:
أولها: الولوج من الظاهر إلى الباطن، وثانيها: توسيع مدارك الإمام محمد عبده وحدود دوائر تحصيل المعرفة، وذلك من خلال توجيهه نحو الدرس الفلسفي والرياضي، وحثه على دراسة هذه العلوم.
فاعلية التصوّف
وينتقل الباحث في الفصل الرابع إلى فاعلية التصوف في رؤية زكي نجيب محمد النقدية للتصوف، فيقول: "إذا ما انتقلنا إلى التُراث الصوفي على وجه التحديد وجدنا فيلسوفنا (زكي نجيب محمود) يتوقف طويلاً أمام مقولتين تنتميان إلى نطاق التصوف وتحملان ـ في رأيه ـ شيئاً من التناقض: أما الأولى؛ فصادفها خلال قراءته لديوان تُرجُمان الأسواق للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي (638 هـ)؛ ففي شرحه لديوانه أورد ابن العربي نصّاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يقول فيه: "ما ابتُليَ أحدٌ من الأنبياء بمثل ما ابتُليتُ"، مشيراً بذلك إلى رجوعه من حال رؤية الحق ـ إبان رحلة المعراج ـ إلى دنيا الناس؛ ليخاطب فيهم من ضل عن سبيله ليهديه سواء السبيل. بمعنى: إن رؤية الحق لم تكن عنده هي كل الشوق، وإنما يكملُها أن يغير الحياة على هذه الأرض بما يجعلها تعلو إلى الكمال الذي رأى.
أما القول الثاني؛ فمقولةٌ للولي المسلم العظيم عبد القدوس الجنجوهي، وردت في مستهل الفصل الخامس من كتاب محمد إقبال: تجديد الفكر الديني في الإسلام، يقول فيها: "صعد محمد النبي العربي إلى السماوات العلا ثم رجع إلى الأرض. قسماً بربي لو بلغت هذا المقام لما عدتُ أبداً" ويستشهد بكلام محمد إقبال الذي جاء فيه: "إنه من العسير جداً أن نجد في الأدب الصوفي كله ما يفصح في عبارة واحدة عن مثل هذا الإدراك العميق للفرق السيكولوجي بين نمطين مختلفين من أنماط الوعي: أما أحدهما؛ فهو النمط الذي تتميز به حالة النبوة. وأما الآخر؛ فهو ذلك الذي تتميز به حالة التصوف".
إدراك الحق غاية
ويستنتج من ذلك؛ أن إدراك الحق عند الصوفي إنما هو غايةٌ يتوقف عندها، بحيث لا يتمنى العودة إلى دنيا الناس! وذلك على خلاف وعي النبوة، أو حال النبي، حيث يصبح الإدراك بمثابة يقظة تصحو بها كوامن نفسه، وتتحول إلى قوى تهز العالم من حوله؛ ليستفيق من سباته؛ فيبدل قيماً بالية بقيم جديدة.
ومع أن إقبال قد فرق في مقاربته تلك ما بين "الوعي النبوي" من جهة، و"الوعي الصوفي" من جهة أخرى، مع إقراره إمكانية أن يُقال في النبوة: إنها ضربٌ من الوعي الصوفي، وتأكيده أن الميزة الأساسية للوعي النبوي هي كونه غير مخصوص بالإنسان في الأحوال كافة، ومن ثم تختلف نسبة الوعيين في طريق العودة من مقام الشهود؛ إلا أن زكي نجيب محمود اختار أن يتجاهل قوله هذا، مؤكداً أن عودة النبي من حالة الشهود إلى حالة الفعل أو الفعالية، هي بمثابة مقياس يقيس شيئين في آن واحد: يقيس مدى ما تنطوي عليه المُثُل العليا التي شَوهدت في حالة الرؤية الروحية من قدرة على التطبيق والإصلاح. ثم يقيس مدى ما تستطيعه الإرادة القوية والعزيمة الماضية في مواجهة الصعاب حتى تزيل حياة فسدت لتقيم مكانها حياة جديدة منشودة.
والحال أنه ليس بإمكاننا أن نحاكم التجربة الصوفية كلها استناداً إلى مقولة واحدة؛ هي أدخلُ في باب "الشطح" من أن تكون من صميم المقولات الصوفية الراسخة؛ فقد أكد المتصوفة في أدبياتهم أن مقام "الولي" أدنى من مقام "النبي"، وأن "الكرامة" تابعة "للمعجزة"، وأن قدرة النبي على تلقي "النور الإلهي" أقوى؛ فالأنبياء إذا ما سُلطت عليهم الأحوال ملكوها، في حين أن الأولياء إذا ما سُلطت عليهم الأحوال ملكتهم؛ ونتيجة ذلك تصدر عن بعضهم الشطحات، ويغيبون عن وعيهم بما يدور من حولهم.
على أن مسألة "الفاعلية" الخاصة بالأولياء كانت محط انتباه زكي نجيب محمود بحيث شغلت حيزاً كبيراً من اهتمامه؛ فقد تمنى أن تُسخر قوى الأولياء المذكورة في ثنايا الأدبيات الصوفية؛ لا في تعطيل قوانين الطبيعة وإنما في خدمة الإنسانية ورفعة شأنها. يقول في بحثه ثالث العوامل المقيدة لعقولنا عن الأصالة، المكبلة لأرجلنا عن السير: "ذلك الميل الشديد الذي نُحسُّه في نفوسنا نحو أن تكون قوانين الطبيعة لعبة في أيدي نفر من أصحاب القلوب الورعة الطيبة؛ فيكفي أن يشاء الله لواحد من عباده أن يكون من الصالحين لينصرف "صلاحه" هذا في أوهام الناس، لا إلى شق الترع وبناء الجسور ورصف الطرق وإقامة المصانع؛ بل لينصرف "صلاحُه" نحو تعطيل أي قانون طبيعي شاء".
علاقة جدلية
وبالرجوع إلى محاولة الوقوف على اتجاه العلاقة ما بين صعود وهبوط التحضر الإسلامي من جهة، وصعود وهبوط منحي التقدم والتراجع على طريق الحياة الروحية في الإسلام من جهة أخرى؛ يقول الباحث محمد حلمي عبدالوهاب، أن التصوف الإسلامي إنما كان يستمد قوة صعوده من قوة التحضر الإسلامي أولاً، وأنه حين لاحت في الأفق القريب بوادر انحطاط عام في مسار النهضة الإسلامية، سرعان ما بادر بتحمل مهمة دق نواقيس الخطر؛ لينبه الأمة كلها ـ قادة ورعية ـ بسوء الحال والمآل.
يتحصل مما سبق؛ أنّ العلاقة بين التصوف والنهضة هي علاقة جدلية في جوهرها وتجلياتها على السواء. والدليل على ذلك، أننا حين نشرع في المقارنة بينهما فإنه سرعان ما يلفت انتباهنا ملاحظة أن منحى التحضر الإسلامي على مستوى الخلافة كان قد بدأ في الهبوط منتهياً بالانتكاسة الكبرى التي لحقت بإصلاحات الدولة العباسية في منتصف القرن الخامس الهجري، والتي ابتدأتها مطلع القرن الثالث الهجري، في حين أن حركة التصوف في هذه الأثناء قد تابعت مسار تقدمها بتشكيلها تياراً إنسانياً يدعو إلى التوفيق بين سائر التيارات السياسية والفكرية المتصارعة، بل وتطلع التصوف إلى ما هو أكثر من ذلك، فاستهدف المصالحة بين الأديان! ومع ذلك ما إن انتكست تلك النهضة حتى تحول التصوف إلى حالة من الاغتراب.
*كاتب وباحث تونسي مقيم في دمشق