تنبأ الاستراتيجي روبرت كابلان، قبل حوالي عقد من الآن، بأن منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد منها سوريا والعراق، ستتحوّل إلى أرض طاردة للحياة البشرية، وستتفكك الدولة في هذا الحيز الجغرافي، وتتحوّل السلطة فيها إلى العشائر والإثنيات، وسيتم إلحاق هذه المناطق بدول الجوار، حيث ستتغير الخريطة، وتزول دول بكاملها، وتظهر كيانات جديدة، كما أن بعض الدول ستكسب صفة "الكبير"، مثل الأردن ولبنان.
الغريب أن كابلان، الذي وضع هذه الخلاصات في كتاب عنوانه" انتقام
الجغرافيا"، لم يلمّح من قريب أو بعيد للصراع المذهبي، رغم أن مؤشراته كانت موجودة في حينه، عبر الصراع الأهلي في العراق، ولم يتطرق للمشاريع الجيوسياسية باهتمام، رغم بدايات تبلور مشروع إيران "الهلال الشيعي"، إنما استند في تحليله على التغيرات المناخية، وبالتحديد انحباس الأمطار وجفاف الأنهار، بما يعني استحالة وجود نشاطات اقتصادية، وبالتالي حياة بشرية في هذه المنطقة.
لا شك أن كابلان لم يخترع البارود، وخاصة في جزئية توقعه لندرة المياه القادمة للمنطقة، فهو لم يفعل أكثر من قراءة المعطيات الظاهرة للعيان، مثل سنوات الجفاف المديدة التي ضربت المنطقة في تلك الفترة، وانخفاض مناسيب المياه في الأنهار العابرة لسوريا والعراق، إما بسبب التغيرات المناخية أو لقيام تركيا ببناء سدود في أراضيها، بالإضافة لذلك طرق الري المتخلفة والمعتمدة في تلك المناطق، التي تهدر كميات كبيرة من المياه في الإنتاج الزراعي. ومن الطبيعي في حالة مناطق يعتمد اقتصادها على الزراعة والرعي؛ حصول اختلالات نتيجة نقص المياه فيها. وبالفعل، شهد عام 2009 حالة نزوح ضخمة لسوريين من منطقة الجزيرة صوب دمشق وحلب، بعد أن دمر الجفاف مناطق شاسعة. أما في العراق، فقد اختلطت الكارثة بالحرب المذهبية فلم ينتبه أحد لها.
وما زاد من حجم الإشكالية وتوسّع مدى تأثيرها وضررها، عدم وجود إدارة جيدة للكوارث الحاصلة، ذلك أن أنظمة العراق وسوريا، المنخورة بالفساد، لم تستطع إيجاد حلول لمساعدة المتضررين، وإيجاد مخارج عملية لهذه الأزمة التي ستتحوّل بالفعل إلى مدماك أساسي من مداميك أزمة كبيرة ستضرب المنطقة في بدابة العقد الحالي.
قبل أيام قليلة، نشرت إحدى مراكز الدراسات الإيرانية، القريبة من جهاز صنع القرار في إيران، إحصائية عن الفئات والمناطق التي خرجت في المظاهرات الأخيرة، وكانت المفاجأة ان أغلبية تلك المظاهرات حصلت في مناطق كانت تصنف بأنها مؤيدة للنظام، وهي مناطق ريفية يعتمد سكانها على الزراعة.
ويفسر نيكاهانغ كوثر، وهو عالم جيولوجي إيراني، أسباب ذلك بالتغير المناخي، حيث ضربت إيران 14 سنة جفاف متوالية. كما أن نظام الملالي اتبع سياسات مائية خاطئة أدت إلى زيادة أثار الكارثة، عبر بناء مئات السدود واستنزاف المياه الجوفية لري مزارع لأعضاء في النظام، أو تحويلها لشركاتهم الزراعية على حساب أراضي الفلاحين العاديين، وقد كان من نتيجة هذه السياسات هجرة خمسة ملايين، منذ عام 2011، من الأرياف إلى أحياء الصفيح في ضواحي المدن الكبرى، ليضافوا إلى 11 مليونا كانوا قد سبقوهم في العقد الماضي. ويتوقع كوثر أن تبدأ إيران بتصدير الملايين من أبنائها إلى الخارج، على شكل هجرات هاربة من كارثة الجفاف.
ولا يبدو الأمر مختلفا بشكل كبير عنه في مصر؛ التي ينخفض فيها منسوب مياه نهر النيل بدرجة ملحوظة في السنوات الأخيرة، الأمر الذي يهدد حياة ملايين من البشر يعتمدون على الزراعة على امتداد مجرى النيل في البر المصري. كما أن الإجراءات التي تقوم بها إثيوبيا تهدد برفع مستوى المخاطر وتعجيل الكارثة، فضلا عن كون السياسات المائية التي يتبعها النظام المصري لا تختلف عن مثيلاتها في الشرق الأوسط.
قبل سنوات قليلة، ظهرت دراسة علمية أمريكية تحذر من ظاهرة موت النحل البري بكثرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وذلك بسبب الاستخدام المكثًف للمواد الكيماوية في تسميد المزروعات، وحذرت من أن موت هذه الكائنات الصغيرة سينتج عنه موت أسباب الحياة في هذه المناطق. والمعلوم أن النحل البري يقوم بتلقيح الخضر والفواكه، وأن هذه العملية أساسية لإنتاج هذه المواد، ومن دونها ومن دون النحل البري؛ تنعدم إمكانية إنتاج الأغذية الزراعية بكلفة رخيصة، ولا يعود بإمكان الشرائح الكبرى من سكان هذه المناطق الحصول على الأغذية، الأمر الذي سيدفع بعشرات الملايين من هذه المناطق إلى البحث عن مناطق أخرى (أوروبا وأمريكا) للحصول على الغذاء.
مشكلتنا في الشرق الأوسط لا تنحصر بالمناخ وحده، بل باندماج الكوارث البيئية بالفساد وسوء الإدارة والظلم والقهر، بما يجعل الحياة صعبة وفوق طاقة الشعوب على احتمالها. وفي هذه الحالة تكون الدولة والوطنية والاجتماع البشري هي الضحايا الأولى لهذا النوع المركب من الكوارث، حيث يصبح الانتقام من هؤلاء، ومن الجغرافيا ذاتها، المخرج الوحيد المتاح.